جاء التدخل الروسي وانتشاره في الساحل السوري مفاجأة على جميع المستويات، أصابت جميع من شاركوا في ما اتفق على تسميته بالأزمة السورية، التي أصبحت حربا بعد شهور قليلة من اندلاع الاحتجاجات الشعبية. حولها النظام بغية سحقها في مهدها إلى حرب لم تكف عن التوسع باستدراج أصدقاء وأنصار وداعمين ومقاتلين وممولين وجهاديين، وميليشيات مذهبية، وقاطعي رؤوس…

التدخل الروسي على الأرض تأخر، أخيراً استدرك ما فاته، فسورية أرض مشاع ولا يصح أن تستفرد فيها إيران وحدها، كلفت الروس خمسة فيتوات في مجلس الأمن. ومهادنات صورية مع الأمريكان، ومماحكات مع المعارضة السورية، ولا ننسى تصريحات لافروف المتغطرسة.

هيأت سورية أوضاعاً مثالية لجميع الأطراف، فالأمريكان الذين لم يرغبوا بالتدخل في سورية، تمسكوا بلاءاتهم وعرقلوا أي حل لا يوافقون عليه، فلا الحل السياسي بات ينفع، والحل العسكري مشكوك فيه، طالما يجب ارضاء أطراف كثيرة. أما النظام العاجز عن الفعل، فليس عاجزا عن المناورة، في انتظار الفرصة المواتية كي يتقاسم معهم النفوذ على ارضه، فالجيش زائد قوات الدفاع الوطني كفيلة باحتلال موقع نافذ على الأرض، لكن ليس مضمونا، جماعاته قد تميل الى إيران أو روسيا، لذا أفضل ما يفعله النظام توحيد قواته، رغم صعوبة التوفيق بينها، النهب والفساد يفرقهم.

سارع الروس، حسب زعمهم، مضطرين نتيجة لتقاعس الآخرين عن المغامرة بجنودهم. وكان فيها وجهة نظر قوية، سقوط النظام القريب يعني أنهم أكبر الخاسرين، أما إيران فلن تخسر الكثير، فهي على مقربة من سورية، أذرعتها الطويلة تنخر فيها على جميع الأصعدة، خطوطها مفتوحة والجغرافيا تساعدها. بقاء النظام ضرورة سياسية للروس. أحد أهداف الغزو الأخير كسر الحاجز الجغرافي بإلغاء المسافات، ما يساويهم بالإيرانيين، باعتماد مبدا الشراكة معهم، ما يحد في الوقت نفسه من النفوذ الإيراني. تأثير الروس لم يعد يقتصر على مجلس الأمن، أصبحوا على الجبهات، وفي المقدمة، المستقبل إلى جانبهم الموالون للنظام لا يحبذون دولة يشرف عليها الملالي، بل دولة علمانية، ولو كانت على الطريقة الروسية، نظام البعث عرّفهم إلى انموذجها، كانت ديكتاتورية مفيدة بالنسبة إليهم، أما بالنسبة لما يُروَّج عنها، فسوف تشوبها ديمقراطية مستحدثة باتت مطلوبة عالمياً. الحرية الوحيدة فيها للمافيا، أسوة بروسيا نفسها.

لا يجدي لوم الروس على التدخل لأسباب أحدها أن التحالف العربي والمعارضة السورية ضمنوا لهم مصالحهم في سورية، وما أقدموا عليه لن يمنحها ضمانة أكبر، إن لم تكن مهددة فعلاً بالغرق في المستنقع السوري. هذا الطرح يتجاهل أن ما سيكسبه بوتين ليس حماية مصالحه فقط، هناك مكسب إضافي، ما ينشده شرعية مطلقة في الداخل الروسي، تمنحه حقوق الرئيس الأوحد، بعدما وضع روسيا على خارطة الصراعات الدولية، وأكد نفوذها من على منبر الأمم المتحدة وبلهجة هجومية، فاتهم الامريكان والغرب بالفوضى الحاصلة في المنطقة، ولم يغفل أوكرانيا. بات لروسيا الحق في أن يكون لها كلمة وفعل في ما يجري في العالم.

في السياسة، من الخطأ اهمال العوامل الذاتية، لذلك لا ينبغي اغفال تضخم الذات البوتينية. الرئيس الروسي يبحث عن انتصارات هي مسوغات قوية تبقيه في السلطة. بوتين لم يقنع باستنفاد فرصه الرئاسية، ويعد لفرص إضافية، ألم يحكم من الخلف في فترة مدفيدف؟ وربما أمريكا قلدته حربياً بالقيادة من الخلف. لا ينبغي استغراب العقدة البوتينية، شهوة السلطة أكثر ما تفعل فعلها في هؤلاء الذين نشأوا في الدول الشمولية، وكانت لهم أدوار سرية في صناعة الأحداث من خلف ستار. العقلية الشمولية لم تغادر العالم، إذ هي المنبت الخصب للديكتاتورية والديكتاتورين والرؤساء الحالمين بالأبد. كما علينا ألا نستهين بتأثير الأديان التي تشارك بالحروب، الكنيسة الارثوذكسية الروسية باركت التدخل في سورية، ما أسبغ على بوتين لمسة من القداسة تؤهله روحياً لحرب مقدسة ومنها لزعامة روسيا لفترة قادمة، ما دام لديه من الوقت ما يسمح له بإجراء تعديل على الدستور، رئيس جمهورية عربي عدل دستور بلده خلال ساعات ومن قبره.

إذا كان الزمن الروسي قد بدأ، فلنتوقع أن سورية التي غادرت الأبد الأول، قد دخلت في الأبد الثاني.