فرضت الحرب السورية أبعادها على جميع الأطراف المشاركة. وإذا كانت الأزمة قد أصبحت حربا مفتوحة، فاستراتيجيات الدول المشاركة فيها أمست مفتوحة ومرنة أيضاً، تبعاً لحرب تبدل وجوهها، بعدما صار هناك ما يقال، وهناك ما يضمر. سورية تعد بكل شيء أو لا شيء، لذا لم يعد التقاتل مؤخراً، الا لأن تقاسم الحصص سيبحث على طاولة المفاوضات والتنازلات والمساومات.

ليس جديداً أن الطريق إلى سورية سالك منذ سنوات، وطموحات الطامعين في تصاعد، فإيران عازمة على احتلال سورية المفيدة، بعد تقسيم سورية الأم إلى دويلات طائفية، لإيران الحصة الأكبر فيها، تضم دمشق الكبرى إضافة إلى الشريط الساحلي، وهي دويلة ليست مفيدة إلا للإيرانيين، وترتد على السوريين بالنزوح وتمزيق المجتمع السوري، لكن من يهتم، طالما هناك من يرضى بوجودهم لقاء بقائه.

أما الروس فيرمون كقوة عظمى إلى أن يكونوا طرفاً في إعادة ترتيب العالم، وجدوا في سورية بلداً طيعاً لكافة أنواع الاحتلالات، بتغطية من محاربة الإرهاب. استراتيجية بوتين المفتوحة، ليست مشوشة، ولا تعتقد بالحرب المذهبية، وإن كانت تستفيد منها. السند في تدخلهم أن الدعوة جاءت من السلطة الشرعية، ولو أنها ترتع في دماء السوريين. أما الحجة، فعدم مبادرة اية دولة في العالم إلى إيقاف المذبحة. وإذا كان الروس لوحوا بأن استراتيجيتهم ستسهم بحلحلة الازمة السورية، فقد وجهوا جهدهم العسكري الأكبر لقصف مواقع المعارضة المسلحة، دونما تمييز بين المعتدلة وغير المعتدلة، وبذلك يعطون الإيرانيين درسا في الإبادة، مع ان الإيرانيين لم يقصروا، لكن لابد أن هناك نقصا ما ستعوضه الآلة الحربية الروسية.

كمدخل للحل السياسي الذي تدعو إليه روسيا، عدم التنازل عن رأس النظام الذي لا تتجرأ دولة ولا جهة ولا منظمة، بعد مأساة الكيماوي والبراميل المتفجرة، على إعادة تصديره للعالم على أنه الرقم الصعب في مستقبل سورية، لكن بقاءه مبرر وجودهم.

اختارت روسيا التوقيت المناسب للتدخل؛ السعودية تخوض حرباً قاسية في اليمن، تركيا تمنعها أوضاعها الداخلية من الاصطدام مع الروس، عدا عن اعتمادها على الغاز الروسي. الأوربيون لا يرغبون في تصعيد لا طاقة لهم عليه. أما الأمريكان الذين غاظهم الغزو الروسي، فقصتهم على حالها، تصريحاتهم المتناقضة، والتي باتت غوغائية، لا تقدم ولا تؤخر، ما دام أنهم لا يريدون فعل شيء، مؤخراً ربما عرقلة الاعمال العسكرية الروسية بدعم المعارضة بصواريخ التاو، وليس بمضادات الطيران، لمجرد الإبقاء على المعارضة شوكة تستنزف الروس، وتعقد وجودهم في سورية. امريكا كما العهد بها حليف غير موثوق به على الاطلاق، وبتصرفاتها هذه لا تساعد المعارضة، قدر ما تجعلها رهينتها.

من جانب آخر، حسبما يتردد بقوة، بصدد استعادة مكانة روسيا في النظام الدولي، والتي ارتدت على بوتين بارتفاع شعبيته بشكل كاسح، بعد ادعائه أنه يريد نظاماً دولياً أكثر عدالة، إذا كانت هذه نواياه الفعلية، فقد أخطأ عندما لم يختار الحرب العادلة والمعركة الصحيحة والشريك الحقيقي، ةإنما اختار النظام القمعي، وعادى السوريين المطالبين بالحرية.

الرقم الأصعب هو السوريون بمختلف فئاتهم، في هذه الحرب التي خدعوا فيها، والأمل الأقوى هو الجيش الحر؛ الضباط والجنود الذين رفضوا إطلاق النار على شعبهم، وتصرفوا بوازع من ضمائرهم، وتحملوا الكلفة الباهظة لهذا الخيار، منهم من أعدم، أو مات تحت التعذيب، وتعرضوا إلى الذبح من “داعش” والاغتيالات والقصف والتنكيل بعائلاتهم.

سيقال الكثير عن هذه الحرب، رغم أطنان ما كتب عنها؛ المتفق عليه إنها حرب بلا أخلاق. لأول مرة تستعمل السياسة في العصر الحديث بانعدام فاضح للمسؤولية الأخلاقية، والتخلي الكامل عن حماية المدنيين، في زمن تعالج فيه الأزمات بين الدول تحت سقف مؤسسة دولية تدعى الأمم المتحدة، وتحت انظار مجتمع دولي، وبمراقبة منظمات إنسانية، وإمكانية اللجوء إلى محاكم دولية… كل هؤلاء مقيدون أو عاطلون عن العمل، والدليل أن الأمين العالم للأمم المتحدة لم يفتر عن القلق منذ خمسة أعوام، دون أن يودي به قلقه إلى الاستقالة احتجاجاً على مجازر يتعرض لها شعب ينزح هرباً من القصف والذبح.

قبل أيام دعي الرئيس السوري، أو استدعي إلى الكرملين. حسب بعض المحللين لضمان أنه سيتصرف بموجب التسوية السياسية التي يُعِدّ لها الروس. أجرى بعدها الرئيس الروسي اتصالات بالقادة العرب وتركيا. إذا كان قد عرض عليهم حلولاً تعجيزية مرفوضة. فليس ما فعله إلا ليقول إنه لم يجد شركاء في حل الأزمة، فاضطر إلى محاربة الإرهاب، بالمشاركة مع النظام وإيران. عموماً من المبكر معرفة ما ستؤدي إليه الخطة الروسية، مع أنها ليست مبشرة، إذ بدأت بالغزو والترهيب، بينما الحل نفسه، هذا إذا كان جدياً، ممكن من دون عاصفة السوخوي.

وبافتراض حصول تقدم إيجابي في لقاء بوتين برأس النظام، فربما كان ليس في اعطاء الرئيس الروسي لنظيره السوري درساً قاسياً في الواقعية، فالجميع غارقون في الواقع، وإنما في إلزامه ألا ينكره، وبالضبط ألا يتعمد ذلك.

أما الواقع، فهو خروجه من سورية، تمهيداً لإيجاد مخرج لشعب بأكمله من حرب كانت إجرامية وعبثية.