من الطبيعي اعتبار التبادل الثقافي العربي خاسراً مع الغرب. نحن نأخذ منه، ولا نعطيه. فمنذ أن أتحفنا العالم بما حصّلناه من علوم، وترجماتٍ عن اليونانية، والليالي العربية “ألف ليلة وليلة”، أدار الغرب لنا ظهره، وصنّفنا نَقَلَةً انتهى دورُهم، فالنقل ليس كالإبداع. بعد قرون من الركود، ليس لدينا ما نقدمه سوى الدين الإسلامي، غير أنه لم يهتم به، إلا بعدما تم تفخيخه، وطالت انفجاراته بلدانهم. هذا في وقتٍ لم يعد الغرب يهتم بالأديان كلها، حتى التي ينسب نفسه إليها، وإذا كان يشير إلى حضارته اليهودية المسيحية، فلكي يميز نفسه عن الآخر الذي هو نحن، على الرغم من أن التبادل مع الغرب والاحتكاك به، سواء بالتجارة والتبشير، أو الغزو والاستعمار، وهي عملية جارية منذ قرون، حصدت جدواها في ارتفاع منسوب العداوة بيننا، مع سوء تفاهم تاريخي. العملية لم تتوقف، انتقلت إلى مستوياتٍ أخرى، اتخذت أشكالاً ومسارات، فرصُ نجاحها معدومة.
لم يتوقف اهتمامنا بالغرب، حتى إبّان احتدام الصراع معه، وإن قاطعناه أكثر من مرة، مع اعترافنا بعظمة حضارته التي ما زلنا ننهل منها، وكان من الفطنة ألا نغفل عن تأثيراتها المهلكة، وهي تجنح بقوة نحو عولمةٍ طاغية، أشبه بجائحةٍ فتاكة، تلزمنا بالاستهلاك، لا شركاء مساهمين في صناعة الحضارة الإنسانية، على الرغم من أننا لا نملك إلا القليل لنقدمه، لكنه، حسب زعمنا، واعد بالكثير. لا يفترض أن يكون في المستقبل المنظور معادلاً لما نأخذه. الأخذ والعطاء إثراءٌ للحياة، وإن لم يكونا متساويين. فرحلة التأثر والتأثير من الصعب التحكم بتداعياتها، المهم أن طرائقها متوفرة، بواسطة الترجمة ووسائل الاتصال، على أن يتغير وضعها الراهن الآخذ وجهةً لا يتعداها، يرتكز إلى اعتقاد الغرب بقوانين اعتاد عليها، واطمأن إلى مردوديتها الاقتصادية، فلم يسع إلى تطوير التواصل معنا، واقتصر الإنعام علينا بتعميم ثقافته، والاستخفاف بثقافتنا، إن لم يكن طمسها، دونما محاولة التعرف إليها إلا لدراستها وإصدار الأحكام عليها، مع التحيّز ضدها، ولأسباب منفعيّة بحتة. ومن طرفنا، ليس بمقدورنا أن نشق طريقاً في اتجاه غربٍ انتقائيّ لا يفتح أبوابه لنا، وإنما يستعلي علينا.
هذا المنوال من عدم التوازن يرضي غرور الغرب ويستهويه، طالما أننا في حاجة إليه، وآخر ما طلبناه منه تحريرنا من الطغيان الذي نرسف تحته، مما عزّز ويعزّز لديه جانب الهيمنة، وليس تفوقه علينا فحسب، بل قدرته على منحنا حياةً أخرى أفضل من هذه المحكومة بالعسف والإجبار، مما يوحي له بأنه على حقٍّ مطلق، فلا يتقبل إلا ما يوافقه، ويسلك مسلكه، وهذا مرتبط غالباً بسياساته المتبدلة والطارئة، حسب مصالحه وتوجهاته، فهو يريد تابعين أوفياء، يشاركونه مفاهيمه والقيم التي يحملها، من دون مراجعة، خصوصاً بوجود متبرعين للسير على النحو الذي يحبّذه.
الثقافة العربية مغلوبة ومعزولة، وتجترّ نفسها، تحاول الخروج من مأزق الاستبداد، الواقعة فيه، وفي الوقت نفسه، تطلب المساعدة من حضارةٍ، لا تخفي طموحاتها، بل أحقيتها في بسط رؤيتها على العالم، فأي تحرر نرنو إليه؟ مما يفترض تعاملاً مختلفاً، يعتمد على السعي المتبادل السليم إلى التواصل، شرطه الإنسانية والندية واحترام الآخر.
ندرك أننا في موضع المتلقي، لكننا لا نرغب أن تكون رسالتنا إليه مجرد انعكاسٍ لما نتلقاه منه. المشكلة أن آلية التبادل الثقافي تضعنا وجهاً لوجه إزاء ثقافةٍ، تزعم أنها مكتفية بذاتها، لكنها، في الصميم، تفتقر إلى الآخر؛ وتتشرنق حول نفسها، وتظن أنها تفهم العالم، مما يعطيها الحق في اختيار ما يلائمها، لا ما يلائمه، من دون أن تستمع إليه.
ما التبادل الجاري، اليوم، إلا مجرد وهم، والتحدث عنه بإيجابيةٍ، لا يزيد عن مجاملة مخادعة، ومهما ترك من لمسات، فغير كافٍ. وطالما بقي على حاله مجتزءاً، ومن طرفٍ واحد، فلن يبلغ ما يُرجى منه.
-
المصدر :
- العربي الجديد