كتب تولستوي روايته الكبرى “الحرب والسلام”، بعد مرور نحو مائة عام على غزو نابليون روسيا. رواية شاملة كهذه، لايمكن كتابتها إلا بعد مضي زمن، يسمح برؤية حدثٍ هائل اجتاح أوروبا. عزيت مثل هذه الروايات إلى تيار الرواية التاريخية، مع أن التاريخ كان أحد أبعادها، بينما كان محورها الرئيسي الإنسان إزاء الحرب، وما تثيره من معضلات إنسانية عن الوطن والثورة والحرية والحب والتضحية والمجد… المسافة الزمنية الفاصلة ساعدت تولستوي على الحصول على مشهدية أطّر بها أحداث روايته.
بلزاك لم ينتظر، كتب عن المجتمع الفرنسي في مطلع القرن الثامن عشر، عمله الروائي الجبار، تحت عنوان عريض “الملهاة الانسانية”، ناهز مائة رواية، فيما كان كثير من أحداثها، قد جرى، أو يجري على مقربة منه. عاين بلزاك، حسب اعتقاده، مجتمعاً مستقراً بعد انتهاء الثورة الفرنسية، وهزيمة البونابرتية في أوروبا، والكنائس استعادت مكانتها الروحية، وعودة الملكية، ومعها الصالونات الأدبية والمضاربات المالية، ودسائس القصور، إلى سابق عهدها، والعشاق إلى عشيقاتهم… لم يكتب بلزاك عن حدثٍ انتهى، وإنما وصفاً للمجتمع الفرنسي بما يعج به من بشر من مختلف الطبقات، وما يعتمل في داخله من تقلبات. صور حية تعد مرجعاً لذاك العصر، وتفسر الكثير مما لا يتطرق المؤرخون إليه، لا سيما الطموحات والعواطف والأهواء والمؤامرات والأحلام المحبطة… والانسان في عظمته ونزواته وحماقاته.
الاعتقاد أنه في زمن الثورات والمتغيرات الكبرى، لا يمكن كتابة روايات توازيها، إذ إن أغلب ما تفرزه يخرج من لهيبها وتشظيها، متأثراً فيها. ما يكتب عنها سيأتي بعد قرن أو ما يزيد، بعد وضع الحدث الروائي في منظور ما. كيف للكاتب في أزمنة تتصدع فيها امبراطوريات ودول، أن يتأمل مشهداً لا يثبت على حال، غالباً تتعرج الطريق، وتذهب في اتجاهات لا تخطر على بال، ليس بوسع المراقب الحاذق تحديدها، التاريخ لا يعيد نفسه، يتأرجح بين احتمالات لا يمكن ضبطها، وتتجاذبه مسارات لا يمكن التنبؤ بها.
ومع هذا، لا يمكن النظر إلى الرواية ضمن هاتين الرؤيتين أو التصنيفين، تحت ثبات الواقع ومتغيراته يحفر التاريح خطواته، وما نظنه مشهداً يعاني من الركود، ليس إلا السطح المخادع لما يجري فعلاً. الثورات العربية التي قامت، ليست الا نتاجاً لما تفاعل وتراكم في ظلمات السجون والمعتقلات وتحت تأثير الضغوط الهائلة من القمع وكتم الأنفاس… وافتقاد القليل من الهواء الذي يبقينا على قيد الحياة.
قبل الربيع، كان هناك ما نكتب عنه، وما نرغب في قوله، قدومه استأثر بالمشهد كله، وأخفق الروائي في وضع جوهر المتغيرات الملتبسة على محك التأمل، إذ لا يمكن التنبؤ بما سيجري. عموماً كانت المقدمات المضطربة دالة إلى انتهاء عصر وبداية آخر، نهاية زمن وبداية زمن. التوقعات كبيرة، ونادراً ما تتحقق في زمن قصير يعد بالسنوات، فالعصور أطول مما نعتقد أو يخيل إلينا. غير أن بوارق الأمل بالحرية لا تتبدد، يؤكدها ما تخلفه الثورات من ضحايا تليق ببداية عظيمة، وإن قصّرت عن بلوغ النصر. هذه المشهدية تقمع رواية تسعى إلى الظفر بإطار يحدد الحدث الرئيسي وتداعياته، طالما أن الأحداث لم تضع أوزارها بعد.
بوسعنا في حال أخذنا هذا المشهد بالاعتبار، تفهّم تشاؤم بعض النقاد ومبالغاتهم، حول أن الرواية كفن في نزعها الأخير، باعتبار أنها لا يمكن أن تزدهر إلا عندما يوجد في المجتمع طبقات محددة (نبلاء، برجوازية، عمال، فلاحون، حرفيون) وتقاليد راسخة، وقوانين متعارف عليها. إذ لا يمكن الكتابة عن مجتمع في حالة تكون أو مخاض، وبشر في حالة عدم استقرار. ليس النقاد وحدهم على خطأ، بلزاك أيضاً، اعتقد أن فرنسا أقلعت عن الثورة وحروب الحرية والتوسع، بعدما ذاقت ويلاتها، واستعادت زمن الملكية لتعاود مسيرتها في التاريخ. غير أن الأحداث اللاحقة كذبت قناعته، دُكت أركان الملكية، وأصبحت فرنسا جمهورية، لكن كسبت الملهاة البلزاكية.
من هذا المنظور، لم تمتنع الرواية، كان بلزاك شاهداً على عصره، وكتب ملهاة اخترقت التاريخ والأدب، كانت حول كيف رأى العصر نفسه.
-
المصدر :
- العربي الجديد