في ظل تراجع القراءة، أصبحت الدراما التلفزيونية المصدر المستمر، وربما الوحيد للأسف، المهتم بتزويد الأجيال الجديدة بالمعلومات التاريخية، عدا المختزن سابقاً في الذاكرة من المناهج الدراسية في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية. هل من المبالغة القول إن هذه المعلومات تحمل من الزيف أكثر من الحقيقة؟ وجهة النظر هذه تستند إلى أن التاريخ المكتوب مجير لكل عهد، خصوصاً العقود الأخيرة، من الاستقلال حتى الآن.
تعتبر المسلسلات الدرامية التي اعتمدت التاريخ مشاركةً ليس في تصديره وتوزيعه على الجمهور العربي فقط، بل في تصنيعه أيضاً. فالأنظمة تأخذ بالاعتبار الإقبال على الدراما، فتحيل إليها التاريخ، بمواصفات ممنهجة، طبقاً لرؤية الحزب الحاكم، أو السلطة، وربما جهاز المخابرات، ويراعى في التوجيهات إغفال التركيز على الراهن، إذ من الصعوبة الكذب على الناس في مشكلاتهم التي يعانون منها، وبما أنه لا حلول لها، يسخرون منها، فتنشط الأعمال الكوميدية.
بالنسبة للمتعطشين إلى التاريخ، الدراما التاريخية مصدر للتعرف إلى الماضي. إذا كان هذا الاستنتاج صحيحاً، فللمخرج مصطفى العقاد الفضل في تعريف الشبان في فيلمه “الرسالة” على بدايات الدعوة إلى الإسلام، وفي “عمر المختار” على نضال الشعب الليبي ضد الاستعمار الإيطالي. الهدف من هذه الأفلام الاكتفاء من التاريخ بمحطاتٍ، تنتمي إلى بواكير الإسلام، والنضال ضد الاستعمار. السلطات القائمة آنذاك دعمت إنتاج هذين الفيلمين، وليس على منوالهما تدفقت مسلسلات تاريخية كثيرة، عموماً من دون المساس بالتاريخ القريب، لئلا تُطرح تساؤلات حوله، فهو لم يتقولب بعد. المعنى؛ هنا يتوقف التاريخ.
ولقد كانت للدراما السورية تجربة دعيت “الفانتازيا التاريخية”، دفعاً للالتباس، تجنبت فيها التاريخ، خوفاً من التطرق إلى موضوعات ترمي بظلالها على الحاضر، كانت الأنجح في العودة إلى الماضي البعيد، فكان مبهماً. لم تؤذ التاريخ، كانت نظيفة منه، وإن ظهر بشكل اعتباطي في الملابس واللحى والسيوف. وإذا كان قد خالطها التزوير والتشويه، فلم تنل إلا من تاريخ لا وجود له.
بالنسبة إلى التجربة المصرية في التاريخ المعاصر المسموح به، تشكو أغلبها من عاهات أخرى، شركات الإنتاج لا يعنيها منه إلا النجومية والبذخ في الملابس وفخامة الديكورات، مع قدرٍ محسوبٍ من العنف الشرقي والدسائس والإغواء النسائي، وبعض التوابل الجنسية، بقدر ما تسمح به الرقابات العربية.
أما الإشكالات، فتتوضح في حال التعرض إلى التاريخ السياسي، تظهر على سبيل المثال في المسلسلات التي اعتمدت شخصية الرئيس المصري، جمال عبد الناصر، في عدم القدرة على تشكيل تاريخٍ يمكن الوثوق به، مع أن المراجع عنه متوفرة، والفترة قريبة ماثلة في الأذهان، وبعض الفاعلين فيه على قيد الحياة، إضافة إلى عشراتٍ من كتب المذكرات، سواء من مؤيدي المرحلة الناصرية، أو الناقمين عليها وعلى شخصية عبد الناصر ومشروعه القومي.
ففي عهد السادات، جرى الانقلاب على مسيرته، وانبرت الأقلام للنيل منه، واتخذت مواقف مضادة له بتشويه مقاصده. وفي عهد مبارك، جرى التأسيس لعهد آخر، على أنقاض إنجازاته، فجرى تغييبه، والإساءة إليه، واليوم في عهد عبد الفتاح السيسي يُعاد الاعتبار إليه، من خلال التصور أن الأخير سيكمل مسيرة عبد الناصر، من غير أن يقتفي خطاه، فالزمن اختلف والظروف كذلك، أي أن شخصية عبد الناصر مادة لاصطناع شعبية السيسي. فلا عجب في عدم الدقة والتحريف، طالما أنهما مقصودان.
شخصية عبد الناصر حاضرة، وإن كان مختلفاً عليها، لا يفسرها تقلب العهود، وإنما ابتغاء الحقيقة، من هنا، تبدو الحاجة لرؤيةٍ لا تساير أهدافاً سياسية راهنة، فالزمن لم يمض بعد، لتترك عرضة لتكاثر التأويلات وتعقدها، إن لم تهدف إلى التلاعب بها، سلباً أو إيجاباً، إذا أرادت الدراما المساهمة في التاريخ، وهو بالنتيجة تاريخ غير نهائي.
فالتاريخ لا يضع نقطة النهاية، إذ هو عرضة على الدوام للبحث وإعادة النظر، وتوخي مزيدٍ من العمق والمصداقية. في حال طمحت المسلسلات العربية إلى إعادة كتابة التاريخ العربي، المهمة جديرة بالتحقيق. لكن، إن كان على نمط ما اعتادته، فرائدها ترسيخ تاريخ مشكوك فيه، بتعمد وضع نقطة النهاية.
-
المصدر :
- العربي الجديد