يحيلنا الصراع بين الأجيال إلى فكرة قتل الأب لصاحبها سيغموند فرويد، الأشهر من أن يعرّف، استنبطها من مسرحية “أوديب” لسوفوكل، حلّل أبعادها، وما ادعاه من خفاياها العميقة الغور، وبنى عليها نظريته المشهورة “عقدة أوديب”. لن ندخل في تعقيدات وتفاصيل تنظيراته الجذابة وتداعياتها الجنسية، سنكتفي بعنوانها وخطوطها العريضة جدّاً، ونذهب إلى تداعياتها الأدبية.
تبرّر فرضية قتل الأب إزاحة الأجيال الشابة للآباء عن سلطتهم الأبوية. لا يقتصر التبرير على شأن عائلي ضيق، يشمل أيضاً امتداداتها وانعكاساتها على الثقافة والسياسة والمجتمع… على أنها سُنّة الكون، تنشأ مع الولادة وتتأصّل بالموت. في حال تعثُّر هذه المتوالية، يتدخّل ما يُصلح هذا الخلل، بإعادتها إلى العمل ودفعها الى الأمام. تشبّث الآباء بسطوتهم، يوقف نسغ الحياة عن الأبناء، وبالتالي قتل الأب معنوياً يؤدي إلى الحلول محله، أو على الأقل إدراجه في سلك التقاعد الإجباري، كسلطة تأمر فتطاع، وقد يُقضى عليه غيلة، عندما يغدو عثرة في وجه المتغيرات والتطور، هذا ما يزعمه الابن العاق، القتل لا يتم بأساليب إجرامية، لكنه لا يستبعدها، بل بأساليب ناعمة، ليست فجة، تؤدي الغرض نفسه، نوع من القتل الرحيم، وإن كان يتم غالباً بلا رحمة، وفي جوهره بمنتهى القسوة.
” لا يكتفي كبار الكتّاب بزمنهم، بل يستولون على زمن الأبناء، إن لم يكن الأحفاد أيضاً”
بالتعريج على الأدب، لا يكتفي كبار كتّابه بزمنهم، بل يستولون على زمن الأبناء، إن لم يكن الأحفاد أيضاً. بالمقابل لا يكتفي الأبناء بإزاحتهم، ولا بقتلهم، بل بدفنهم، غير أنه لا ضمانة تمنع قيامتهم من قبورهم، لتتجدد عملية القتل، فآباء الأدب لا يحكمهم الموت، سلطتهم تمتد إلى ما بعد الوفاة، يتحكمون بالأحياء وهم تحت التراب، القبر لا يشكل مانعاً. حتى الذين شبعوا موتاً قبل سنين أو قروناً، سلطتهم الرمزية ما زالت فاعلة، تمكنوا من عروشهم، كأنها التصقت بهم، والتصقوا بها، ما يبيح هدم العرش نفسه. وإذا كان هناك من طوّب عرش الشعر للمتنبي، فالذين حاولوا قتله وجهوا سهامهم إليه، غير أن المشكلة ليست المتنبي، بل قصائده التي لا تموت.
لا تقتصر أدوات الصراع على القتل، هناك ما هو أقسى منه، يبدو أخف وطأة، ويؤدي الغرض ذاته، قد لا يكون أكثر من التشكيك، في من غادروا الحياة منذ زمن وجيز، يملي التساهل معهم أن الأبناء ما زالوا يستظلون بهم، ويعدون أنفسهم امتداداً لهم، مع الوقت يغدرون بهم، والنتيجة نفسها. أما الذين على قيد الحياة، فالأمر لا يستأهل النقاش، مهما طار صيتهم، فقتلهم مؤجل.
لا ينجو فرع من فروع الأدب والفن من هذه الفعل الجنائي المتعمد، مهما كان نوع الأداة، التجاهل وسيلة ناجعة أيضاً، كذلك تعمد النسيان، فبعد كون الأديب أو الفنان شاغل الأوساط الثقافية، إذا بموته يرسله إلى تاريخ الأدب، هناك يختفي بين الغبار، وقد يبقى منه ذكرى شكلية من سنة لأخرى، تنبه إلى موته لا إحيائه. هذا في حال وُفّق بتلامذة نجباء، لم يسارعوا إلى قتله، أو المثابرة على محو آثاره بحيث لا تقوم له قائمة.
فن العقوق ترتكبه الأجيال بالتتابع دون أدنى إحساس بالذنب، ذلك الذي افترضه فرويد لتبرير الشعور بالإثم، وغالباً لا يعترفون بهم، ويختلقون منحى آخر يحفظ لهم استقلاليتهم وتفردهم. لكن العقوق الناضج يوفّر ادّعاءات التماوت القسري، هذا الذي لا ينحو إلى قتل الأب، بقدر ما يتمثله، فهو لا يغيبه عن الزمن الحاضر، بل يحافظ على استمراريته من خلال ما يضاف إليه، فالثقافة تواصل وتراكم، وليس انفصالاً وقطيعة. البذرة في أرض يباب لا تثمر، وإذا أثمرت، لن يطول بها العمر.
التنكر للأجيال السابقة، خطيئة ترتكب دونما تبصر، بالوسع كيل الاتهامات لثقافة قدمت الكثير من الاحباطات، والقليل من الإنجازات، لكنها في النهاية انعكاس للأوضاع السياسية وترديها، فالسياسة تمنع ولا تسمح، وهي التي تبيح القتل غير الحلال، إذ لا يجتمع القتل مع الحلال. لذلك كانت معركة الثقافة مع السياسة الغاشمة، القاتل الأكبر في حياتنا.
-
المصدر :
- العربي الجديد