قبل أربعة قرون، في مدينة جنيف، وقف على المنبر العالم اللاهوتي جون كالفن يخطب في جمهور المصلين محذراً من أن الفساد ضرب أرواح الشبان اللاهين الباحثين عن المتع الدنيا واللذائذ المنكرة، مشيراً إلى أن آثام الجسد ما هي إلا أعراض لفقدان الايمان، أما العلاج فبالمشانق: “إن شنق سبعمائة أو ثمانمائة من شباب جنيف ضروري، حتى تشيع الأخلاق الحسنة والعادات القويمة”.
ذاع صيت جون كالفن على أنه لاهوتي كرّس حياته لإصلاح الأرواح الضالة. ولقد كان من تشدّده في التدين أنه حدّق في الإنسان من زاوية حادة، حشره فيها، لم ير فيه سوى الانحراف عن جادة الإيمان، حسب ادّعائه كانت نظرته واقعية، وبذلك رآه على حقيقته فاسداً بحاجة إلى إصلاح، وكي يكون إصلاحه شاملاً، لا يصح من دون دعم سماوي صارم. إذ لا يمكن للإنسان الخاطئ إدراك الحق الإلهي، إلا بتجلي النور في قلبه، حتى أن الفضائل تصبح رذائل من دون نعمة الله، ولن يهتدي البشر إلى الرب، إلا إذا اختبروا الإيمان الصحيح وعاشوا حياة صالحة.
حوّل كالفن مدينة جنيف إلى مدينة مقدسة تتوافق مع مشيئة الله، سكانها يعيشون حسب أخلاقيات الكتاب المقدّس، منع فيها الرقص والفحش والخلاعة والعربدة ولعب الورق والمقامرة والسكر وارتياد المسرح الفاجر. طموح كالفن كان مدينة خالية من الفساد، ترتع آمنة في حالة من الاستقامة الدينية، في أحضان الفضيلة، يعيش في ربوعها مواطنون يخشون الله، وموعودة بإنجاب أجيال ورعة. رسالة حملها تلامذته من اللاهوتيين المجدين على أنها رسالة الإنجيل كما سمعوها منه إلى أرجاء أوروبا.
“لم تتحرّر جنيف إلا بظهور مواطنها جان جاك روسو”
هذا الطموح الذي فرضه كالفن على المدينة، أفرز جواً من الإرهاب يعتمد الانضباط القاسي والتربية القويمة، حصيلته مواطنون خائفون من المعاصي، حذرون من زلة أو هفوة، بدا حتى الهواء محملاً بالشرور، ما أودى بهم إلى حياة منطوية وهادئة، جامدة وصامتة، خالية من الفرح. التعاليم الصارمة التي فرضت على المدينة كلفها خسارة كل القوى التي تنشد الانطلاق، قوى الإبداع لا تولد، ولا تزدهر إلا في جو من الحرية. ولقد قيل، لو أن سائحاً زار جنيف، وكان قد عرفها من قبل، فلا بد أن يعتقد أنها في حالة حداد.
باتت جنيف مدينة خاضعة لأغرب التفسيرات لتبرير الطاعة العمياء لتعاليم كالفن الذي سيدعي أن رجلاً بسبب تجديفه انتزعه الشيطان من سريره في وضح النهار وألقى به في نهر الرون. وسيضطر عندما ضرب الطاعون جنيف، إلى الدفاع عن تنكر القساوسة لزيارة المرضى وتقديم المواساة الروحية لهم، لئلا يصابوا بالعدوى، باختراع مسرحية لتبرير الطاعون، بإلقاء القبض على بضعة بؤساء يتضورون جوعاً، عذبوهم لفترة طويلة تعذيباً فظيعاً، إلى أن أقرّوا بأنهم جلبوا الطاعون إلى المدينة عن طريق دهن مقابض الأبواب بمرهمٍ مصنوع من غائط الشيطان. كالفن من فوق المنبر، أبدى علانيةً قناعته المزعومة بهذا الهذر: “لقد نال ناشرو الطاعون ما يستحقونه من جزاء”.
طوال قرنين كاملين من الزمن، دخلت جنيف في العادي والجامد والمألوف، وذهبت الحرية الخلاقة ضحية الرياء والتزلف، وضحية الأمان الزائف. خلالهما، بدا وكأنها اختفت من خارطة الفكر الحر، لم تمنح للعالم مفكراً ولا رساماً، ولا موسيقياً، أو فناناً. راح غير المألوف ضحية المألوف، واللاعادي ضحية العادي، والابتكار على مذبح الصمت. لم تتحرّر جنيف إلا بظهور مواطنها جان جاك روسو.
كالفن قصة اللاهوتي الذي انتفض على خرافة صكوك الغفران، وأسقطه التشدد فيما يضاهيها؛ الشعوذة والخزعبلات والقتل أيضاً. وما اتهم به الأبرياء، كان هو وجماعته الأحق به، لقد نشر طاعون التطرف.
ناشرو الطاعون لا يقتصرون على زمن دون زمن، ولا بلد دون بلد. إنهم جوالو العصور الرديئة يبحثون عن بلد يحطون فيه. عندئذ لن تعوزهم الذرائع، قد يجدونها في الأفكار الشمولية، أو العنصرية أو الأديان والمذاهب.