يسعى الإنسان إلى التميز عن أقرانه ومجايليه. يحبطه أن يكون عادياً، وكأن العادي ليس إنساناً سوياً. يتعلم الإنسان، فيصبح متعلماً؛ ينهل من المعرفة، فيصبح مثقفاً؛ ينتسب إلى الجيش، فيصبح عسكرياً. وإذا حالفه الحظ والجشع وشيء من الجنون، وقدر كبير من الحماقة، يصبح دكتاتوراً.
لا يثير الناس العاديون الاهتمام. كلّهم متشابهون. قد لا نشعر بهم حين يمرون بجوارنا. وإذا أخطأوا، لا نعبأ بهم، وكأنه من الطبيعي أن يخطئوا، وأن نتسامح معهم. نادراً ما ارتكب عاديون ما يودي بهم إلى فضيحة مجلجلة. لو فعلوا ذلك لما كانوا عاديين.
لكن، إذا كانوا لا يلفتون الأنظار، فلم الاهتمام بهم؟ ربما لما يتصفون به من سذاجة وطيبة. لا يسعى هؤلاء إلى إزعاج من حولهم، فما بالنا بتجاوز أعراف مجتمع يجهدون في الحفاظ عليها؟ فضائحهم لا تثير الفضول، وبهذا، تفقد الفضيحة التي قد يكونون أبطالها أهمَّ خصائصها. من يهتم بفضيحة موظف صغير في دائرة مغمورة، اختلس رواتب رفاقه الموظفين وهرب بها؟ قد نشفق عليه من الشرطة، ونرمي باللائمة على الدولة التي سرقها، لكن الحادث لن يزيد عن خبر عابر.
“لا يرتكب العاديون ما يودي بهم إلى فضيحة مجلجلة، لو فعلوا ذلك لما كانوا عاديين”
أبرز ظهورات العاديين لا تتمثل في ما هو أكثر من ذهابهم مع جيش إلى الموت، أو خروجهم في مسيرة حاشدة تتعالى فيها هتافات للقائد الخالد، أو مشاركتهم في احتفال ضخم، يكونون المشاهدين والمصفّقين فيه، أما البطل الأوحد، فهو الذي يسرق الأضواء.
إذا كنا من الناس المتميزين، فنحن مدينون لهؤلاء العاديين بالحياة والأمان والعمر المديد؛ فهم ضحايا الحروب، وأرقامٌ في سجلات القتلى والمفقودين والجرحى. يموتون فرادى وبالجملة. مثواهم القبور الجماعية، والجندي المجهول من حصتهم. أما العائدون منهم إلى بيوتهم، فمعلولون أو أصحاب عاهات، وفي أوقات السلم أو الحالات الأكثر تقدماً، ضحايا زيادة الإنتاج في المعامل والمناجم.
اختُزل وصفهم في فترة سابقة بالرجل الصغير، ولو كان الرجل منهم ضخماً، أو المرأة ضخمةً كذلك. وهم، حتى لو كانوا أكثر المتعرضين للظلم والاضطهاد، أرقام في السجون والمعتقلات. لا يصنعون التاريخ، لكن الثورات تغرّر بهم، فهي بحاجة إلى وقود. قد يظفرون ببعض الحريات، لأجَلٍ مؤقت، لكن سرعان ما ينتزعها العهد الجديد منهم. بعدئذ، يدعون إلى دورة أُخرى ضرورية لصناعة التاريخ اللاحق، فالتاريخ في انتظارهم.
اصطلح على تسمية الناس العاديين من عصر لعصر، ومن عهد لعهد؛ بالعامة، الدهماء، القطيع. كما أنهم الشعب في قول، وفي قول آخر الجماهير، وهم العمال والفلاحون في عهد سلف. يتفرّدون بأن الواحد منهم لا يجد نفسه إلا في الكل، ولا يستطيع أن يكون واحداً ولا وحيداً إلا في عزلته.
سواء مثّل الإنسان العادي؛ الشعب، أو الجماهير، أو القطيع، أو العامة، أو الدهماء، أو الرجل الصغير… ففي جوهره، لا نظير له. هو فريد بحد ذاته، وهو الذي منح العالم عباقرته وعظماءه وأبطاله، وصنّاع تاريخه. أي تاريخ؟ الحقيقي؛ كل ما هو رائع في هذا الكوكب.
-
المصدر :
- العربي الجديد