هل المعاصرة تعني مواكبة الرواية لزمنها؟ أقرب تفسير لها، أنها تجلٍّ للزمن الحاضر في عالم الرواية. ماذا إذا كانت تسري من عصر لآخر، بحيث إن البشر مهما تنوعت بلدانهم واختلفت الأزمنة والأمكنة يجدون أنفسهم فيها؟ رواية “دون كيشوت” للإسباني سرفانتس، تُقرأ في العالم منذ صدرت مطلع القرن السابع عشر وحتى اليوم. ما زالت معاصرة؛ البشر يتعلمون منها، ويستمتعون بها.
موضوع الأدب هو الإنسان، ومجاله الحياة. يستحيل أن تخلو رواية منهما، وإلا كانت عن لا شيء ومجالها الفراغ. الرواية هي الإنسان في زمن معين، مع أن بعض الروائيين يجرّدون رواياتهم من الزمن، تحت زعم عدم ربطها بتاريخ وواقع محددين، على أمل أن تخترق العصور وتطفو فوقها.
كذلك يعتقد بعض النقاد أن إيجاد صلة بين الرواية والحدث التاريخي بملابساته السياسية، يخرج الرواية عن روائيتها، ويضعف فنيتها، إن لم يحلها إلى منشور سياسي دعائي، حتى أصبحت ذريعة للمتواطئين مع الطغيان للإساءة إلى الروايات بحجّة أخرى: عدم فنيتها.
هذا المنظور نتاج فترات سياسية التبست بالشمولية، ووظفت الرواية لتخدم مقولات أيديولوجية، باستغلال الرواية لأهداف دولة حديدية، وتطويع البشر لمنظومات مضادة للحرية، والاعتقاد بأن الدولة لها الأولوية على الأفراد والحريات. فالدولة تتمثل بطاغية، من فرط تماهيه معها، يصبح بديلاً عنها.
“ما دُمر على الأرض دمّر أيضاً ما في الرؤوس ولا يمكن للأدب تفاديه مهما حاول”
خلّف التشدّد في طهرانية الرواية من السياسة مرضاً يدعى فوبيا الأيديولوجيا، ما قاد إلى التعفّف عن السياسة، في عالم يتحكم به سياسيون ديماغوجيون ومثقفون عملاء للأنظمة، ومناخ تتنفس فيه السياسات وخم الاستبداد.
تغييب السياسة عمداً عن الرواية، وكأن من الممكن تجاوز الرواية للزمان والمكان اللذين هي نتاجهما. السياسة مثلها مثل أي شيء آخر لا يمكن تغييبها من الحياة، حتى يجوز لنا تغييبها عن الرواية.. لا سيما في منطقتنا حيث العامل السياسي ضارب في الحياة بشكله الأكثر فجاجة، منذ بدايات القرن الماضي وحتى الآن.
ليس الهدف التنظير للرواية، بقدر ما هو طرح تساؤلات حول الزمان والمكان والتاريخ. اليوم، لا يمكن تصوّر إغفال مؤثرات ما سوف تخلفه وراءها سنوات عاصفة الربيع العربي. لم تُسقط أنظمة فقط، مهما كان الذي حلّ محلها، بل وأَسقطت أيضاً طرقاً عقيمة للنظر. هناك متغيّرات، قد تكون إلى الأمام أو إلى الخلف. عموماً، ما دمر على الأرض، دمّر أيضاً ما في الرؤوس، واستقر في الوعي وفي اللاوعي، ولا يمكن للأدب تفاديه مهما حاول.
في الرواية الغربية، لم يتجاهل الروائيون حربين عالميتين، ولا الحرب الباردة بين الإمبراطوريتين الأميركية والروسية، أو عسف الدول الشمولية، واستعصاء الدكتاتوريات. ذلك ما منح العالم روايات كبرى مثل “1984” لأورويل، و”الوضع البشري” لمالرو، و”كل شيء هادئ على الجبهة الغربية” لريمارك، و”جناح السرطان” لسولجنتسين، و”وداع للسلاح” لهمينغواي. تغييب السياسة عن الرواية إفقار لها.
-
المصدر :
- العربي الجديد