ماذا بعد الإدانة القاطعة والشاملة لجريمة “شارلي إيبدو” من قبل العرب والمسلمين؟ ما الذي سيفعله الغرب الديمقراطي وفي مقدمته فرنسا الجريحة؟ منذ الأيام الأولى بعد المجزرة، بدا ما يشبه إعلان حرب بدأ على جميع الأصعدة ضد الإرهاب، كأنه لم يكن هناك إرهاب من قبل، وظهر الآن موجهاً ضد مجتمعات أوروبا المسلمة.
يتبدى على الصعيد الذي احتدم من جرائه، في متابعة “شارلي إيبدو” تحدي المسلمين بنشر كاريكاتير للنبي والدموع طفرت من عينيه، لا يخلو من استفزاز واضح، يمكن أن يفهم من عدة نواحٍ، أحدها أنها دموع التماسيح. طبعاً ليس المقصود التركيز على هذا المعنى، وإنما الأجواء المحتقنة تسمح لأية جهة التذرع بما يتلاءم مع وساوسها.
الجريدة استغلت الأجواء المؤيدة ضد الإرهاب، ورفعت أرقام مبيعاتها من بضعة آلاف إلى عدة ملايين، في حملة أقرب إلى أنها تقود حرباً صليبية يساعد الكاريكاتير على تأجيجها. عدا ما تقدّمه للمتطرفين الفرنسيين، من رد اعتبار لعلمانية انتقامية شرسة، مع أن الاعتبار الأجدى هو إعادة النظر بأوضاع مجتمعات المهاجرين المسلمين والتفكير برأب الصدع داخل المجتمع الفرنسي، إذ لا يجوز للمسلمين إن كانوا فرنسيين فعلاً، أن يكون نصيبهم أطرافه المهمشة. تجاهل هذه المهمة العاجلة والمديدة لا يمنع انفجاراً قريباً، ولا يحبط انفجارات قادمة.
” اتُّخذ الدين ذريعة للتسلط، مثلما استُغلِّت الأيديولوجيات في القرن الماضي”
تتباهى فرنسا العلمانية، بمجتمعها متعدد الثقافات؛ الأحرى ألا يحكم العلاقة بينها، الكراهية والبغضاء من جانب، والاستعلاء والعجرفة من الجانب الآخر. الاستهتار بالمقدسات الإسلامية وغير الإسلامية، لا يشجع على حسن الاحتواء ولا الجوار، وإنما إلى حروب غبية، بالإمكان تلافيها.
إذا شاءت فرنسا علمنة مواطنيها المسلمين بالقوة، فلتعد إلى تاريخها بالذات، زمن الثورة الفرنسية في عهد الإرهاب، قتلت المجازر آلاف الرهبان، حتى خيل يومئذ أنه لن تقوم للدين قائمة، ومع هذا عاد الدين، بعدما سبحت فرنسا في الدماء، إلى أن توصلت إلى ترتيب العلاقة بين الكنيسة والدولة. لم يكن انتصار العلمانية سهلاً، قرون من النفي والقهر والموت.
بالنسبة للعلاقة مع الإسلام، ربما لو يترك الأمر للمسلمين أنفسهم، فهم أحوج للنظر إلى أمور دينهم. والكف عن نقاش مصطنع يقصد منه تحميل الإسلام المسؤولية عما جرى بغية اعتباره ديناً يحضّ على التخلف والقتل. كما أن الطلب من المسلمين الاعتذار عما جرى من باب إبداء حسن النية، يدل على قصر النظر، فالمسلمون أنفسهم من أكثر المتضررين، والقتلة لا يمثلون الإسلام، فلماذا الاعتذار؟
اتُّخذ الدين ذريعة للتسلط. مثلما في القرن الماضي، استُغلِّت الأيديولوجيات، وصراع الطبقات، ودعاوى المساواة، وما يقال عن مجتمع أفضل… تعلات تخفي الأسباب الحقيقية، ومن جرّائها سقط ملايين القتلى. بينما هي سياسات تتوخى السلطة. وليس في الأفق، بل منذ الآن بدأ تنافس اليمين واليسار الفرنسي على استغلال العداء ضد الإسلام والمسلمين للوصول إلى قصر الإليزيه، على خطى “داعش” التي استغلت الإسلام في إعلان دولة الخلافة.
-
المصدر :
- العربي الجديد