ليست الرواية من الأجناس المحصنة التي لا تمس، فقد اخترقها الشعر والسينما والمسرح والفن التشكيلي. وكما يبدو، كان للرواية قصب السبق في تسجيل أكثر الاختراقات تأثيراً في الفنون، خصوصاً السينما التي اقتبست وما تزال كثيراً من الأعمال الروائية الكبرى، وكذلك “الأكثر رواجاً”.

بعض الروايات كانت محظوظة، أُخرجت للسينما مرات عدة. عموماً أية رواية تحوز على إعجاب القرّاء تجد طريقها سالكاً إلى الشاشة. وكي لا ندخل في حسابات وتصنيفات، الأحرى القول، إن الفنون تبادلت التأثر والتأثير منذ بداياتها المتباينة بتسارع كان منسجماً، ففاضت الرواية، خصوصاً، بأشكال هجينة لم تعمّر طويلاً.

احتلت الرواية التي تحمل بصمة الشعر، أو التي تستعين بالتكنيك السينمائي، قمة عمليات التجريب، حتى اقتصرت الصفة الإبداعية حسب بعض النقاد على السمة التجريبية، بينما وصمت بالكلاسيكية الرواية التي لا تحمل لمسات جائرة في تحطيم الزمن والتلاعب فيه، أو تهشيم الشخصية الروائية، والتركيز على الأشياء.

“إذا كانت الرواية ستصبح شعراً، فلماذا الرواية؟”

أغلب الكتّاب الذين بدأوا الكتابة في تلك الأوقات المشبعة بالتجريب والطامحة إليه، وفّروا على أنفسهم مشقة الرواية كسرد له قواعد ومعايير وعوالم، وأصبح لكل كاتب أسلوب في الكتابة التجريبية، فكان التجريب للتجريب، ذروته ما دعي بـ”النص المفتوح” على مصراعيه لجميع أنواع الأجناس الفنية، يختلط فيه السرد بالوصف والحوار بالسيناريو والمقالة بالتهويمات والتداعيات، والشعر بالنثر، دونما تقيد بالزمان والمكان، كتابة منفلتة كان مرضياً عنها؛ ما جعل فكرة التخلص من الأجناس تميل نحو جنس خليط، مثاله نص بلا هوية، عبارة عن فوضى سطحية توحي بالعمق، تبناه الكثيرون، واشتطوا به، حصد تجارب خائبة، كانت في وقتها فتوحات مبينة.

فقد كان قابلاً للتشكل حسب المرغوب، فإذا كانت له استطالات روائية، يطلق عليه صاحبه رواية، وإذا كانت الاستطالات شعرية فيصبح قصيدة من الشعر المنثور، وإذا كثر فيه الحوار كان “مسرحية”، فلم يبق بحدود نص طليق، لكنه سجل محاولات وتدريبات كانت في فراغ. هذا الإقدام على تحطيم الأشكال المعروفة أخفق، وإن بقي يتردد على الهامش.

ما يميز الأجناس الأدبية، هو القواعد والمعايير التي نشأت على أساسها. وإذا كان هناك من تجديد أو تجريب، فنابع من داخلها. إذ لا يمكن أن يقدّم جنس لآخر خدمة كبيرة، بالتخلّي عما يمتلكه لصالح ما يستعيره.

ولنرجع إلى تاريخ الرواية القريب، نجد أن الشعر والمسرح والسينما، لم تمنح الرواية شكلاً آخر، ولم تطوره. غير أن الرواية استفادت منها جميعاً، وما أخذته أصبح من نسيجها، وقولبته داخل معمارها، وأصبح يمت للرواية لا للجنس الذي أخذت عنه. بينما عندما استغلّت الشعر، وأغرقت نفسها فيه، تحولت إلى كائن جميل مشوه، مديونيته خاسرة، بافتقاره إلى بنيته الأساسية ووسائله الفعلية: السرد والشخصيات والحبكة… فإذا كانت الرواية ستصبح شعراً، فلماذا الرواية؟

في التداخل بين الأجناس، ليس هناك نقاء، وأيضاً لا هيمنة.