يسجّل تاريخ الأدب حالات لافتة، تخط مع الوقت تيارات أدبية، تؤكد وجودها بترسخها والاعتراف بها في عالم الأدب. كمثال عليها في العقود الأخيرة “الواقعية السحرية” التي نشأت في أدب أميركا اللاتينية وانتشرت في العالم، وأصبحت ملكية عامة لما انطوت عليه من ارتياد للخيال والواقع معاً، منح إمكانات إضافية للكتابة لا يستهان بها.

ترى إلى أي حد يعتبر مشروعاً أن أدباً هو نتاج بيئة معينة، وتاريخ أدبي محدد، وظروف خاصة، ينتقل أو يختطف إلى بلدان لا نصيب لها في نشأته، ولا ابتكاره، لمجرد نجاحه في جذب القراء وإشادة النقاد به، وما اكتسبه من شهرة أهلته لسمعة مرموقة، بحيث أغرى الكثيرين بالتأثر السريع به، ومحاولة تقليده على أنه وصفة سهلة للنجاح؟

لا يخترق الأدب العالمية، إلا لكونه مديناً لمحليته، ما يحيلنا إلى خصوصية الواقع، المحلية بالضرورة. هذا ما تثبته الواقعية السحرية نفسها في روايات ماركيز وغيره من أدباء أميركا اللاتينية، وليس غريباً بعد سنوات أن نشهد تراجعاً في التأثر بظاهرة ماركيز، فالتقليد لا يقدّم للظاهرة شيئاً سوى التكلّس، بينما ما زالت مزدهرة في موطنها، وإن كانت تعاني من بعض الانحسار، غير أن اللمسة السحرية لهذا الأدب تخللت الرواية كصنعة وابتكار، وأمست مادة عصيّة على الاستسهال، ومن أدوات الرواية المعترف بها في تاريخ الأدب، وبذلك انضمت الواقعية السحرية إلى المدارس الأدبية التي سبقتها.

“ليس غريباً بعد سنوات أن نشهد تراجعاً في التأثر بظاهرة ماركيز”

من السهولة أن نعزو ظاهرة التقليد إلى عملية التأثر والتأثير، لكن الأدب لا يسمح بهذه البلادة، ولا بالبطر. يكتب الأدب روائعه، ليس اشتقاقات من بعضها، ولا نسخاً للروائع الأخرى، وإنما تحت ضغط ظروف إنسانية وأوضاع تشهد متغيرات إشكالية، يقف البشر إزاءها عاجزين ومتسائلين، يتدخل الأدب فيها لا ليرصدها أو يكون شاهداً عليها فقط، وإنما ليعلو صوت الإنسان من داخلها.

الملاحظ في العقد الأخير، تراجع المعايير وتدنيها، تحت تأثير نقد المجاملات والتقريظ الصحافي الممجوج، وتوسل العلاقات الشخصية مدخلاً للشهرة، ما يعزز أدباً سطحياً سهل الهضم، ينشد التسويق السريع، والظفر بمبيعات كبيرة، تسهم بتربية قراء يفضلون رواية خفيفة من دون اشتراطات أدبية موحية وإنسانية واعدة، ما أدى إلى نمذجة قارئ يستريح إلى أنماط سهلة القراءة، يظن أن ثقافته أصبحت على سوية العصر لمجرد أنه يستسيغ كتباً يقال إنها جيدة، بينما هو في سوق يطرح الغث والسمين، لكنه يختار الأسوأ تحت تأثير الدعاية.

لا الصحافة ولا أغلب دور النشر، تهتم بالأدب، قدر ما يهمها تسويق الكتاب، ولو كان تحت ادّعاءات كاذبة، ما يروج لنمط جشع واستهلاك مبتذل. طرائق يستفيد منها الذين ينشرون عدواها. وما يدعى بحمّى القراءة اليوم، ظاهرة غير مطمئنة، لأنها تعتمد كتباً لا تستحق الوقت الذي يهدر في قراءتها.

الشيء الجيد، إذا كانت عابرة.