في ستينيات القرن الماضي، سُئل أندريه مالرو، صاحب رواية “الوضع البشري”، وكان وزير الثّقافة في عهد الجنرال ديغول، عن القرن القادم، فقال سيكون دينياً، وإلا لن يكون أبداً. في حينها لم يبدُ هذا التنبؤ عبقرياً، بل مجرد حدس خياليّ، مستبعد تماماً، خصوصاً أن الدين في الغرب كان يلفظ أنفاسه الأخيرة حينها.

تميّز القرن العشرين بحربين عالميتين خلفتا ملايين الضحايا، ودماراً هائلاً طال أوروبا كلّها. مدن بكاملها سوّيت بالأرض. المجاعة والفقر والأوبئة لم تستثن العالم القديم والجديد معاً. مشهد كرّس اعتياد الموت، وإحساس بالعدميّة أفرز بشراً يائسين، وحياة بائسة.

الإلحاد سيطر على العالم الشيوعي، بأوامر حزبية، بينما التيارات اليساريّة في أوروبا نبذت الدين، واعتبرته أفيوناً. الفقراء المنكوبون يذهبون إلى الكنائس طمعاً في الخبز لا في رحمة الله، فالحرب مرّت والعناية الإلهيّة لم تنظر إليهم بعين الشفقة.

“وجدت الصراعات الإقيلية في المنطقة العربيّة البيئة الأصلح للحروب الدينية”

توقع مالرو أن عالماً بلا دين لن يستمر على قيد الحياة، خصوصاً أن الحرب العالمية الثانية انتهت بتفجير القنبلة الذرية، وأدرك أصحاب الرؤى أن قدرتها التدميرية كفيلة بإنهاء الحياة. بينما بدا العالم مقبلاً على الدمار في ظل الصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية، إذ قد يتورط أحد الحمقى المجانين منهما بإطلاق القنبلة لمجرد إنذار كاذب.

لكن مالرو أصاب في حدسه. لم يمض القرن العشرون حتى استعادت الكنيسة الكاثوليكية مكانتها، والكنائس الأخرى. كما شهد الإسلام أكثر من صحوة. لكنّ أحداً من المثقفين أصحاب التوقعات الخطيرة، لم يتصور أن عودة الدّين سوف تكون مدجّجة بالسلاح، وأن يتورط الكوكب في نزاعات دينيّة ومذهبيّة، نتائجها تماثل مفعول القنابل النووية، إن لم تفقها تدميراً.

من سوء الحظ، أو من ضرورات الصراعات الإقليميّة، أنّها وجدت في المنطقة العربيّة البيئة الأصلح للحروب الدينية التي ستأخذ شكل صراعات مذهبيّة، ولو مضى عليها أكثر من ألف عام.

بالنسبة إلى المنطقة، وهي تقع في جغرافيا حيويّة، تضم أقليّات متناحرة، وأكثريّات غير متضامنة، تعقد صلاتها الروحية مع السياسة من خلال الدين، ما يشوه الأديان والسياسة معاً.

إذا كانت الحروب الدينية في أوروبا قد تراوحت بين بضعة أعوام ومائة عام، وغرقت في أتون دورة من الحروب الأهلية استمرت قروناً تفتر وتتأجج، فالعابثون الكثر بالدين، يجدون الإسلام هو الأصلح لإثارة الفتن والسخاء في القتل.

وإذا كانت الغالبيّة العظمى من الضحايا من نصيب بلاد تشكو من زيادة النسل، فالولادات ستغذّي الصراعات، وتعوّض عن الخسائر بما يزيد عنها. أجيال تولد في المخيمات، لن تتعلم في المدارس، بل ستتدرب على استعمال السلاح. هذا يحدث حالياً في بلاد الشام.

كبرت أجيال من الفلسطينيين، حملت السلاح، وما زالت تقاتل حتى الآن. وكل هذا من جرّاء سياسات دولية غير عادلة ولا مسؤولة. للعالم سوابق، ولن يضيره إضافة أخرى.