يعتقد بعض الكتّاب، أن العملية الإبداعية عملية سهلة، تهبط ناجزة من الأعلى، تأخذ شكل الإلهام. بينما يراها آخرون عملية معقدة، تختلط فيها عناصر جمة أكثر من أن تحصى، من فرط تشابكها واختلاطاتها، يجهلها المبدع نفسه، وتشكل مزيجاً يختلف من واحد لآخر.

بالعودة إلى الذين يعتقدون أنها سهلة، يدّعون أن محاولات تعقيدها من بنات أوهام باحثين يحيلونها إلى مسألة سرية، لا يُفهم منها سوى أن من يصيبه الإلهام، أتيح له التعرّض إلى عملية اصطفاء تمّت في وادي “عبقر”، لا دخل له فيها، فالإلهام الذي هو أشبه بالهبة، جواز مرور الكاتب إلى معبد محترفي الإبداع.

يُسهم في هذه القصة، مداخلات النقاد ومنهم أكاديميون، يحمّلون العمل الأدبي ما لا يطيقه، فلا يتركون شاردة ولا واردة دون الإشارة إليها، بحيث يبدو أن الكاتب يمتلك الوعي واللاوعي، مع القدرة على التنبؤ، ما يجعله متفرداً عن غيره، ويحيلون الإلهام المفروغ منه برأيهم، إلى عملية شديدة الغموض، ويدفعون الكاتب إلى الاعتقاد أن ما جاءه عرضاً أو عفو الخاطر، يمتلك دلالات، لا يسبر غورها إلا المتخصصون، ولا يدركها إلا الخاصة.

“الإلهام مثل الموهبة قابل للموت، إذا لم يجد مقوِّمات لدى من يهبط عليه”

وهي حجة مسموعة، لكن من دون الإفراط في التخصصات، فلا شيء يرد في الأدب بلا دلالة، فالكاتب لا يكتب بوعيه فقط، هناك ما يتسرب من اللاوعي إلى ما يكتبه. والسؤال إلى أي حد يجوز إدماجه في النص المكتوب، بما يشكل إضافة إليه، لا إثقالاً له. وهي مرحلة يفصل فيها التركيز آخذاً في الاعتبار مجمل العمل.

لكن ماذا لو أفلت الكاتب لنفسه العنان بدواعي الإلهام؟ هناك أعمال كتبت تحت هذه الدعوى، وإن دعيت بـ”الكتابة التلقائية” انتجت مونولوغات مطولة، متحررة من الزمان والمكان، تقفز من الذات إلى العالم والأحلام والبشر والشوارع والحرب والجنون… أشبه بجلسة هذيان بلا ضوابط، كأن من يقودها ويشجع عليها محلل نفسي. افتقادها إلى التركيز، لا يعني أنها غير حافلة بدلالات، تخص صاحب المونولوغ بالذات، وإذا حاولنا تفسيرها، فلا بد من الاستعانة بالمحلل النفسي، والقاموس الشخصي لصاحب التداعيات، عسى أن نظفر بشيء ليس نهائياً، مجرد احتمالات لما يقصده. هل هذا هو الأدب؟ ترى ما علاقته بالإبداع؟

استفاد الأدب من تيار اللاوعي، باستقباله تداعيات لا يمكن ضبطها في سياق محدد، ومن الإجحاف أن يخسرها عمل أدبي محوره الإنسان، إذ تسد في موقعها ثغرة في العقلانية المحكمة، والمعنى المباشر، ودكتاتورية القصد، بتأثرها باللاوعي، كما هو في تعثره وسهواته وشططه وتخبطه… فضيلته؛ غوصه في الأعماق المظلمة، والتقاط لحظات نادرة وفريدة، لا يكون الإنسان فيها أسيراً لنواهي المجتمع، ثم العودة إلى عالم لا يمكن التمرد عليه، بقدر الانصياع إليه.

إذا اعتقدنا بالإلهام، فهو مثل الموهبة قابل للموت، إذا لم يجد لدى من يهبط عليه، الثقافة والإرادة والجهد، والأهم الإحساس بالعدالة والإنصاف.