لا تحتاج الروايات الضخمة إلى رد اعتبار، ولو أن كثيراً من القراء العرب انفضّوا عنها، بعد موجة الروايات اللطيفة الحجم وعدد صفحاتها الذي لا يتجاوز المائتين، مع أنه لا يشترط أن تكون موضوعاتها خفيفة أو ثقيلة.

لكن هذا ما يتطلبه عصر السرعة، استطاع فيسبوك القيام به على أحسن وجه، بتعويد المشاركين النشطين فيه على التقاط فكرة، أو قراءة تعليق لا يزيد أحدهما على عدة أسطر، بحيث لو تخطى هذا الحد أصبح مثيراً للملل، وإذا صادف القارئ مقالاً لا يزيد على صفحة واحدة، فقد يدفعه إلى التبرّم، ولوم الكاتب على عدم ذهابه إلى الهدف مباشرة، بضع كلمات تكفي لا أكثر.

أما الرواية، فشأن آخر، فهي تمُتّ لعادات القراءة القديمة، التي انسجمت مع عالم يعتقد أن المعرفة والمتعة قد تأتيان بالانكباب على كتاب ثلاثة أو أربعة أيام، بلا إجبار ولا قسر. بالنسبة لآخرين يمكن وصف هذه العملية بالأعمال الشاقة.

فما بالنا مثلاً بالرواية العملاقة “البحث عن الزمن الضائع” للفرنسي مارسيل بروست، (سبعة مجلدات في طبعتها الفرنسية، وما يزيد على أربعة آلاف صفحة) تحتاج قراءتها إلى ما يزيد على شهر من قارئ مواظب غير ملول، يأخذه إلى رحلة في الذاكرة، واقعية أكثر من الواقع، بما تلم به من تفاصيل دقيقة جداً عن المجتمع الفرنسي أوائل القرن العشرين، لا تترك شيئاً دون أن تأتي عليه، سواء الأحداث السياسية كقضية دريفوس، أو الحفلات والسهرات والغراميات، وكذلك العمارة وفن الرسم والشعر، ووصف الكنائس والقصور، تنوّع في الشخصيات، عالم هائل يذهلك اتساعه. هذا من ناحية المساحة المكانية والزمانية.

أو انظر إلى رواية “أسرة تيبو” للروائي الفرنسي روجيه مارتان دوغار (خمسة مجلدات، وما يزيد على ألفي صفحة)، تأخذنا إلى السنوات المضطربة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى، والأنماط الاجتماعية والسياسية التي عاشت وقائع الحرب، والأفكار الاشتراكية والمثالية الإنسانية المناهضة للعنف.

طبعاً لا تخلو المكتبة الروائية العربية من الروايات الضخمة وخير مثال “مدن الملح” لـ عبد الرحمن منيف (خمسة أجزاء، ما يزيد أيضاً على ألفي صفحة) تذهب بنا إلى بدايات اكتشاف النفط في الجزيرة العربية والتحوّلات الطارئة على مدن الصحراء، وتأثيره في حياة البداوة، وما أحدثه من انقلابات في أساليب العيش والتفكير.

في الغرب نشهد إقبالاً كبيراً على الروايات الضخمة، مع أنه أسرع منا بما لا يقاس، فالوقت لديهم بحساب، ولا هدر. تجدهم يقرؤون في كل مكان؛ في البيت، على الشاطئ، في الباصات والقطارات… والمدهش أنك بالكاد تعثر في مكتباتهم على روايات صغيرة الحجم، أكثر ما تحتويه هذه المكتبات لديهم الروايات التي تجاوزت الستمائة صفحة.

ليست العلة في الكتاب، وإنما في الرغبة في المعرفة. القراءة ليست على علاقة بالجوانب المجهولة في النفس الإنسانية، بل المعلومة: الاستسهال والكسل.

هل نقول في بلادنا: وداعاً للقراءة.