ينشأ بعض الناس على اعتقاد أنهم خُلقوا ناضجين، فيتوهّمون أن ما يقولونه ويفعلونه هو الصواب، إن لم يكن الكمال بعينه.
يودي اليقين المطلق أحياناً إلى الشر المطلق. أما الذين تعلّموا من الحياة وتبصّروا فيها، فيرون أن اليقين أمر لا يمكن الوصول إليه، فيترُكون هامشاً ولو ضئيلاً من الشك في دعاواهم، وبذلك لا يُضعفون قضاياهم، بقدر ما تصبح أمتن وأقوى، فالشك مثلما هو الطريق إلى الإيمان، هو الطريق إلى الحقيقة، لا سيما عندما يكون للحقيقة أكثر من وجه.
لذلك في القول إن الإنسان يتخلّى حتى عن العلم عندما يتدرّج في اليقين، الكثير من الصحة، إذ ما اكتمال اليقين إلا حجب للحقيقة، ما يمنع العلم من التطوّر، والإنسان من ممارسة إنسانيته.
في القرن السادس عشر، شارك علماء الإنسانيات في أوروبا في الجدال الدائر حول العقوبات التي تتراوح بين الإعدام والتسامح، وذلك بخصوص الدين، وأشاروا إلى أن الأمور العائدة إلى الإيمان قد نوقشت طويلاً، مثل مسألة الإرادة الحرة والجبر والسماء والجحيم والثالوث وغيرها من الأمور، ولم يصلوا إلى اتفاق، ومن يدري لعلّهم لن يصلوا أبداً إلى أي اتفاق.
” يتخلّى الإنسان حتى عن العلم، عندما يتدرّج في اليقين”
وكان الرأي ألاّ داعي للاتفاق، فمثل هذه القضايا الجدالية لا تجعل الناس خيراً ولا شراً ممّا هم عليه، وكل ما علينا هو أن نتحلّى بروح التسامح في حياتنا اليومية، وأن نطعم الفقراء ونساعد المرضى ونحبّ أعداءنا. لذلك من الإجرام أن يجبر الذين يظنون أنفسهم على حق مطلق الناسَ على تغيير معتقداتهم مهما كانت هذه المعتقدات، وإلا تعرّضوا للقتل.
تدعو الشرائع الدينية والإنسانية إلى الرحمة لا إلى التعسّف في استعمال الحق، هذا إذا كان الحق حقاً بالفعل. عدا أن اضطهاد العقائد لا جدوى منه، فالاستشهاد كما نرى، في سبيل فكرة سواء كانت صحيحة أو باطلة ينشرها بسرعة أكبر.
هذه الأمور التي أُشبعت نقاشاً، كان لها ضحايا أكثر من أن يُحصوا سواء على أعواد المشانق أو في المحارق أو الموت تحت التعذيب، ومنهم علماء أجّلاء، تمسّكوا بعقائدهم حتى الرمق الأخير، ومعهم الذين وُصفوا بالسحرة.
تعود اليوم هذه المسائل وأشباهها لتلصق بالتديّن ولتأخذ أسوأ تجلياتها الوحشية، بقطع الرؤوس والأيدي والسحل والرمي من حالق، لا بالجدل الحر، وحتى في حال توفّر المحاكم، فالأحكام منصوص عليها مسبقاً.
المؤسف أن هناك الكثير من الغافلين عن أن هذه الموجة الهمجية من الإيمان المسلح بالموت، قادمة من جحيم السياسات الجشعة لا الكتب المقدسة، لا هدف لها سوى الاستحواذ على السلطة، وفي تاريخ الحروب الدينية دروس دموية.
إن الذين يزعمون أنهم يستندون في أحكامهم بالقتل إلى الشريعة، فلأنها تمنح سلطة مطلقة، ترفدها سياسات لا تميّز الحلال من الحرام، والصحيح من البطلان، فماذا لو كانت خلطة الإدانة مزيجاً من الدين والسياسة معاً؟
-
المصدر :
- العربي الجديد