أصاب الذين أنكروا ثورات الربيع العربي، فهي لم تطابق مواصفات ثورات سابقة من كلاسيكيات الحراك البشري في التاريخ الإنساني. كل ثورة ابتكرت أسلوبها، بينما ربيعنا وما عجّ به من انتكاسات وفوضى، أحبط الشعوب الذي انتظرته طويلاً، وشاركت فيه على أمل التغيير.

لم يتنبه الثوّار الشبان إلى أنه ينبغي ابتداع انتفاضتهم. العفوية بوصلة لا ترشد، والاستعانة بتجارب الغرب، المتوافرة في التاريخ، لا تفيد، ولا تراث المنطقة في الثورات والانقلابات.

الواقع أقوى من تاريخ انهيار الملكية الفرنسية وروسيا القيصرية، فما بلغه القمع في ذلك الزمن، يقصر عما يحدث في بلدان يتعقّد فيها كل شيء من رقابة الأجهزة الأمنية، والإفراط في القتل على الشبهة.

ولقد كان من عدم امتلاك آلية خاصة للثورة، أن أصابها الإخفاق، رغم توفّر جميع الإمكانات لها لتنجح، فقد شاركت فيها جموع هائلة من البشر، على استعداد للتضحية، والإصرار على عدم التراجع عن المطالبة بالحرية والكرامة، وهي أقل ما يمكن من مطالب مشروعة.

لكن من فرط التشويه الذي أصاب الناس، لم يشارك في الاحتجاجات أعداد لا بأس بها من المظلومين والمهانين والمغلوبين على أمرهم، واتخذوا منها موقفاً عدائياً.

“غاب عن الثورات ما جعل بعضهم يرغب بتفسير إخفاقها”

غاب عن الثورات ما جعل بعضهم يرغب بتفسير إخفاقها، وهو الدور المؤثر الذي يلعبه البطل في التاريخ، الرجل الذي تُجمع عليه الأمة وتسير وراءه.

يحلو لبعضهم وصفها بالمصادفة، ولئلا يشترطوها، يضعون العبء الأكبر على الجماهير. ومن المصادفة أنها غابت عن الربيع العربي، المؤهل لمثل هكذا بطل وحدث، الأرض ممهدة، لكن رجل القدر لم يظهر. وكان على الثورة، لو أنها تتمتع بالوعي والإدراك اللازمين لهذه المرحلة، أن تخترعه.

هل غياب رجل القدر هو السبب في تخبّط الثورات العربية؟

الثورة الفرنسية كمثال، لم تفتقد رجل القدر، بل عانت من كثرة الأبطال لا من ندرتهم، عجّت بشخصيات ثورية مثل دانتون ومارا وسان جوست وروبسبيير، وغيرهم من الذين هيّجوا الجماهير بخطاباتهم، أثاروا مشاعرهم وحرّضوا على اقتحام الباستيل وإعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته، وألحقوا بهما مواكب من النبلاء.

لعل قصة روبسبيير من أبرز نماذج هذا الصنف من القادة؛ شارك في إدارة السلطة الثورية ثلاث سنوات، وانفرد بحكم فرنسا كحاكم مطلق لمدة عام واحد، وقتل ستة آلاف مواطن في ستة أسابيع.

عاشت البلد في عهده أسوأ عصور الإرهاب، وأصبح الإعدام يومياً بالمقصلة من المشاهد المألوفة في باريس، كانت الجماهير تخشاه بقدر ما كانت مفتونة به.

كان خطيباً مُفوّهاً منحازاً للفقراء. ومن المفارقة، أنه لم يكن رجلاً قوياً، كان ضعيف البنية جباناً، لكنه أوتي الإيمان بالمقصلة على أنها الروح الحية لعقيدته، التي تلخّصت في أن بقاءه في الحكم هو السبيل لإنقاذ الجمهورية، ومن السخرية أنه كان خرابها.

رجل القدر الدموي أعدم العشرات من الثوريين الملهمين، وكانت نهايته على المقصلة التي قاد إليها رفاق الطريق.