في العقدين الماضيين، حصدت بعض الأعمال الفنية نجاحاً كبيراً، ما أطلق طوفاناً من الأعمال المشابهة. المشكلة كانت في إيحائها أنها ابتكرت وصفة مضمونة للفن والنجاح، فاعتُبر ما جنته من مال مكافأةً من المشاهدين على الترفيه عنهم، وربما على ما حظوا به من فائدة، فالمعيار هو رضا الجمهور.
في الحقيقة، لا يحدّد الجمهور -وحده- العمل الجيّد فنياً، إذ تتدخّل الدعاية في ما ينبغي الإعجاب به، فهي لا تتحكّم فقط في خطوط الموضة، أو في ما نأكل وما نشرب، بل في ما نفكّر فيه، وما يجب أن يستهوينا أيضاً. عمل الدعاية العلني والخفي يتوارى وراء الجمهور، ويروّج له بصفة أنه الحَكَم الأول والأخير.
كان هذا التقليد سارياً في القرن الماضي، جرى فيه الاتفاق على أن للشعب القرار في القضايا الوطنية والقومية. ولقد كان علينا أن ننتظر بضعة عقود لندرك، في القرن الحالي، أن الشعب مغلوب على أمره، لا يقرّر شيئاً، فالقرارات تُفرض عليه فرضاً، بالقوّة والحيلة، وإن كانت المتغيرات كالانقلابات العسكرية تُعلَن باسمه.
” ركّزت الدعاية على الأسوأ فالأحسن مكلف ليس مادياً فقط، بل فنياً وإبداعياً أيضاً”
وفي “الربيع العربي” الذي انقلب إلى جحيم، أمثلة عن الشعوب التي حاولت التغيير سلمياً، فكانت الدبابات والطائرات والمعتقلات في انتظارها، لم تكتم صوتها، بل وأخمدت أنفاسها.
كان في اعتماد مقولة “الجمهور” التي أثبتت جدواها في شبّاك التذاكر تحت يافطة “الجمهور عايز كده” ما روّج لتدنّي سوية الفنون. ركّزت الدعاية على الأسوأ لا الأحسن، فالأحسن مكلف ليس مادياً فحسب، بل فنياً وإبداعياً أيضاً.
الدعاية تكسر شرط الفن المتطلّب، وتتولّى غزو عقول الجمهور وبرمجة رغباته وأمنياته، تمتطي الموضوعات الراهنة وتميّعها لحساب السلطة. الدعاية مُسيّرة، وغير مخيّرة، تحت زعم عدم الانسياق إلى الإبداع الكاسد، بل التسويق لما هو رائج، باستسهال مواصفات باتت دارجة.
من قبل، استغلّت العواطف والمشاعر الرومانسية أيام الأسود والأبيض، واليوم تستغل المكبوت والمحرّم في زمن التفجيرات والأحزمة الناسفة، ما يتلاءم مع موضوعات جنسية معطوفة على موضوعات دينية متشدّدة، بأسلوب متكلّف، يحصد إقبالاً وأرباحاً سريعة، ما يسهم بتربية ذائقة تعتاد أنواعاً سطحية سهلة الهضم، خفيفة ومسلّية، تؤدّي إلى نمذجة مستهلك يستريح إلى الترفيه للترفيه فحسب.
لا ندرك عصرنا في ما نراه أو ما نقرؤه، بل عصراً آخر، غالباً لا وجود له. يقبع عصرنا في الشارع؛ بحيث يبدو كأنه موجود للمعاناة فقط، لا نخوض في أمراضنا ولا في مستنقعاتنا. الفن لا يهتم بالبشر، ربما لأن الكآبة استولت عليهم، إلى جانب هموم يرزحون تحتها، وتطلّعات إنسانية محظورة.
يُخشى أن تصبح هناك سرديات معتمدة للفن والنجاح، يعمل على هديها الساعون إلى الشهرة بأية وسيلة، برعاية شركات تستثمر أموالها بتأسيس أنماط جشعة لاستهلاك مبتذل، لتستفيد ممّا تنشر عدواه، يشهد عليه تدفّق أمثلة رديئة، الطبيعي أن تكون هي وما يأتي بعدها مجرّد تراكم للغثاثة.
-
المصدر :
- العربي الجديد