“ليس على الكِتاب نكء الجراح، بل عليه التسبب بها… على الكِتاب أن يشكل خطراً”. هذا ما يقوله إميل سيوران. فيما لو حدّدنا الاتجاه صوب المنطقة العربية، فعلى الكاتب أن يشكل خطراً على مجتمعه الفاسد، ودولته البيروقراطية، ونظامه الشمولي…. في حال اقتصرنا على ما هو الأكثر ضرورة.

في الحقيقة، لا يشكل الكاتب خطراً إلا على نفسه، فكتبه تمنع، وقد يطارد ويسجن ويقتل. في سورية على سبيل المثال، تعرّض قلة من الكتّاب إلى هذا المصير، أما الأغلبية فمنعت كتبهم، من حسن حظهم، أنهم لم ينشطوا سياسياً، وإلا لكان مصيرهم الاعتقال على الأقل. الانتقادات لم تتعدَّ الكلام الهامس في المقاهي والجلسات الخاصة.

كان محمد الماغوط وزكريا تامر، ينتقدان أكثر منهم، وبشكل لاذع على صفحات جرائد الدولة. مع هذا أوجد الكلام الهامس سلسلة لا أول لها ولا آخر من الكتّاب المعارضين اليساريين، أبرز نشاطاتهم لم تزد على التوقيع على عرائض الاحتجاج، ومن كثرة الإقبال عليها، لم يحظ بهذه النعمة سوى المقرّبين من مدبجي العرائض، فأصبح هناك شِلَل تصطفي الموقّعين، كانت تحفظ ماء الوجه اليساري في الأزمات السياسية.

بالعودة إلى ذلك العهد الميمون، لا يمكن تصوّر كاتب أو فنان أو صحافي إلا وكان تقدمياً، من يتجرأ على ألا يكون يسارياً، كان تيار العصر الجارف، من لا يرطن بمصطلحاته، كان خارج العصر. فالتحق به كل من يحمل قلماً أو يقرأ جريدة، ولو كان شديد الإيمان بالله واليوم الآخر، ويكره الشيوعيين والبعثيين كراهية التحريم.

خلال الحكم البعثي، لم يسمح البعثيون إلا للجبهة التقدمية بالعمل السياسي، فنعموا بالظهور إلى جوارهم في اللقاءات الجماهيرية المختزلة باليسار النوعي، وكان نسخة طبق الأصل عن اليسار البعثي.

لم تنس الجبهة التقدمية لهم هذا الجميل، فكانوا بعثيين أكثر من البعثيين أنفسهم. ولا خصم لهم سوى رفاقهم اليساريين المغضوب عليهم، والأحزاب الرجعية والدينية الممنوعة، التي كانت تلفظ أو لفظت أنفاسها تحت التعذيب، أو في السجون.

جاء “الربيع العربي” وفرز المثقفين، مع النظام أو ضده. كانت هذه إحدى فضائله، فأشهرَ كتّاب النظام وزبائنه الجدد ولاءهم، وعادوا “الربيع” واتهموه بأنه مؤامرة دولية، والأصح كونية. ومعهم المخاتلون الذي يلعبون على الحبلين، المترفعون عن النظام والمعارضة بصفتهم علمانيين وليبراليين، لم يغفلوا النظام، جاملوه بالنقد البناء. ولم يجدوا في رفاقهم المثقفين سوى معارضة انتهازية، وسلفية رجعية، ومنشقين مجرمين.

يا لبراءة النقد النزيه، لم يجدوا في النظام لا قتلة ولا طائفية ولا إجراماً!
لم تكن اليافطة العلمانية والليبرالية كافية للعمل تحتها، كانت ضئيلة على تاريخهم، فاسترجعوا اليسارية كناية عن أنهم لم يتخلوا عن ماضيهم الثوري… ألا إن لليسار سحراً خفياً لا يقاوم.
اليوم يصح القول إنه يُخشى على الثقافة من مثقفي اليسار المشوّه.