احتلت وسائل التواصل الاجتماعي مساحات هائلة من أوقات الفراغ، وأيضاً أوقات العمل. اخترقت حياة البشر، تأقلموا معها، وتأقلمت معهم، منحتهم البديل المجاني في التواصل مع بعضهم بعضاً في مختلف بقاع الأرض الشاسعة، أشبعت هوايات متعددة، وشجعت على المعرفة، وإن كانت أشبه بكبسولات ترضي الشعور بالاطلاع الواسع.

هذا التواصل جعل من التعارف عملية إنسانية مشوقة، باتت مفيدة في تبادل الآراء والخبرات والمعارف. ولا نغفل أنه كان للإعلانات الدعائية الدافع الأكبر في تخطي حدود الدول لتسويق البضائع، من خلال الإدهاش وجلب الاهتمام بها بوسائل مغرية، أحياناً عن طريق الفنون والفضائح. طبعاً، هناك مواقع جادة تحسن التواصل على مستوى راق وجاد، ما تمنحه لمتابعيها، لا تمنحه الكتب بهذه الوفرة والتنوّع وسهولة الوصول إليها.

الميزة التي ظفرنا بها، والتي لا تنكر أن الرأي لم يعد حكراً على الحكماء والمثقفين والنابهين والضالعين في السياسة، بوسع الأفراد العاديين أن يقفوا على قدم المساواة معهم. ما أكسب الأغرار والمغمورين ثقة بالنفس في مجالات لم تكن مجالهم.

فالرأي لم يعد يقاس بمدى جديته، ولا يخضع إلى جهة تنشره. أصبح كل فرد، ولا يشترط أن يكون كاتباً، الإدلاء برأيه مهما كان حصيفاً أو سخيفاً. أما الميزة السيئة، فإمكانية تسخيف أي جهد بالسخرية دونما وجه حق، بل واحتقار أي رأي، والاستهانة بأي شخص.

” اتساع الفضاء الافتراضي يختلق خراباً يوازي مساحته”

هل هذا يحقق ما يمكن دعوته بديمقراطية التعبير، ولو رافقها بعض الشطط وسوء النية؟ طبعاً لا ضمانة ألا يكون للسخافة والسماجة نصيب وافر في هذه الديمقراطية الفجة. ما يمنح الجهلة والمتشددين والمتطرفين مجالاً رحباً، لممارسة نزواتهم الجامحة التي تتعدى الخصال السيئة.

يتسع هذا الفضاء الافتراضي لكل شيء؛ ما يوحي بأنه يجوز فيه كل شيء، فيتساوى ترويج الحقائق مع نشر الأكاذيب، وتسهيل ارتكاب الجرائم، والاتجار حتى بالبشر. والدعوة إلى التحلي بالفضائل مع ارتكاب الرذائل، ما دام هناك من يدعو إلى التديّن، ومن لا يردعه دين عن تكفير الآخرين، إلى حد إصدار أحكام بالموت، وتجنيد الانتحاريين… ما يسهم في تخريب العالم. إن اتساع هذا الفضاء يختلق خراباً يوازي مساحته.

إذا كان الغرم بالغنم، فنعمة الحرية المنفلتة أورثت نقمة متطرفة، الإفراط في الحرية، فرّط بها، وأباح ممنوعات من شدة ما أصبحت خطرة، باتت أداة استباحة، وبؤراً للجريمة. بالتالي الحاجة ماسة إلى سنّ قوانين، وتنظيم قواعد، تحد من الهذر والرعونة والتسيب اللاأخلاقي.

المؤسف، أن هذه لدعوة تعني ابتكار وسائل للمنع، قد تعيق الحريات إن لم تنسفها. إذ يُشتم منها رائحة الرقابة الممجوجة، التي بمجرد ما أن تبدأ عملها لن تتوقف، ستحتل الفضاء مهما بلغ اتساعه، لا شيء يفوق حماسة الرقابة العمياء، حين تسنح لها الفرصة لتمارس هيمنتها وجهلها وغطرستها، فتسحق الكثير من الأشياء الرائعة التي أفسدناها بسوء استعمالنا لها.