المتوقع ألا يشهد العالم استقراراً في العام الجديد، الأزمات التي عانى منها في الأعوام الماضية، رُحّلت إليه. والأرجح ألا يظفر بفترة هدوء طويلة على مدار القرن الحالي، فالعالم تتوالد أزماته، ويتوالى انفراط بلدانه، وعالم آخر في سبيله إلى التشكّل مفتتاً مبعثراً خائفاً غير آمن.

لم تعد القدرات التدميرية تقتصر على الدول، باتت تسعى إليها منظمات خارجة عن القانون، وحركات ناقمة، وجماعات غاضبة… الدول التي تخلّصت قبل عقود من الدكتاتورية، بدأت تحن إلى أزمنة شبيهة بها، الشعوب المخدوعة ترنو إلى زمن الإمبراطورية، تلك التي لن تطعمها خبزاً ولن تسدّ احتياجاتها، لكنها ستمنحها الشعور الكاذب بالعظمة.

العالم ماضٍ في اصطناع الفوارق بين البشر، ما أدى من قبل إلى ثورات دُفع ثمنها حروباً أهلية وسالت دماء، على وقع أصوات المدافع والجنون. ما الذي جنته البلدان التي طمحت إلى الحرية؟ سلطات غاشمة ودكتاتوريات؛ الثورات لا تمنح الحرية ما دام الطغيان لها بالمرصاد.

المتغيرات العمياء آخذة في الانتشار السريع في عالم بات متواصلاً. لم نعد نعيش في عزلة المدينة ولا الدولة، لم يعد الحدث كما كان قبل قرون محصوراً داخل حدود المنطقة، أو القارة في أفضل الأحوال.

” ما نستخلصه اليوم قد يطيح به الغد”

أصبحنا في قلب العالم، تفجير في ملهى ليلي، حريق في فندق، تسريحة شعر جديدة، افتتاح متحف، جريمة قتل في بلدة مجهولة… كما لو أنها تحدث في البيت المجاور، إن لم يكن في بيتنا. الخبر يقطع المسافات الشاسعة بلمح البصر، وسرعان ما يصبح جزءاً من الماضي.

في القرن المنصرم، كان المحللون يشكون من سرعة العالم، وعدم القدرة على مجاراته، اليوم يشكون من أنهم يتسارعون معه، رغماً عنهم، وليس بوسعهم إبطاء حركتهم، ولا استيعابه. ما يحيل عمل المؤرخين والمنظّرين والأدباء إلى تأخر متواصل. كأنهم على موعد دائم مع أفول عصر وبزوغ عصر خلال أزمنة قصيرة، لا يسمح لهم بالتحقق من مشهد سرعان ما يعقبه آخر، لا يحيل إلى نمط ما من الاستقرار، ومن التحايل وضع إطار له.

ليس عبثاً القول إن الوعي بأن أساسيات العالم الذي نحيا فيه، باتت متغيرة، وما نستخلصه اليوم، قد يطيح به الغد، بينما تحتاج عملية الكتابة إلى اختمار طويل، لا يمكن أن تستمد موضوعاتها من دون إضفاء تماسك منطقي متسق، يسمح بإدراجها في سياق رؤيتنا؛ هذا عالم لا يكف عن الإفلات منا. ‏

يحاول الكاتب الإمساك بروح العصر الممزقة، عساه يلتقط ما يعصف بها من قلق إنساني، فلا يظفر إلا بمقاربة انهيارات، وتشييد بدائل لا تدوم، قبل اللحاق بوضع جوهر الارتداد أو النهوض أو النكوص على محك التأمل، فيستأثر به ما يطفو على السطح، وتجذبه إلى مظاهر لا تجنبه مسالك الخطأ… كتابة تبقى في مهب العواصف.