لم تنتج الكوارث الطبيعية أدباً متميزاً. خلّفت الزلازل والفيضانات والأعاصير، نكبات وضحايا بالجملة، لكنها حفزت العلم على التنبؤ بها ومحاولة تداركها.
ما قدّمته للأدب، مشاعر الرهبة والعجز وضآلة الإنسان أمام ثوران الطبيعة وبطشها. لم نحصل على أدب يقارب غضب الطبيعة، وإن تسلل إلى ثنايا الكثير من الأعمال الروائية، ولنتذكر القحط والجفاف في “عناقيد الغضب” لشتاينبك. بينما استفادت السينما منها، بما دعي بسينما الكوارث وفيها استعرضت قدراتها على نقلنا من مقاعد المتفرجين إلى قلب الأعاصير والبراكين.
بينما الكوارث البشرية كالحروب والمذابح والانقلابات والاحتلالات… تحدت الأدب وساءلته، المفترض أن يكون لها حظ أوفر فيه، ما دام أن البشر يصنعون كوارثهم التي تفوق فعل الطبيعة الأهوج، يغفره لها عدم تمتعها بالوعي، ما يعفيها من تقصّد الأذى.
الملاحظ أن الحروب الكبرى في العالم لم تنتج أدباً إلا بعد مرور سنوات عديدة. والتفسير هو أن الأدب يقف عاجزاً عن استيعاب مثل هذا الحدث الكبير، وإذا كان هناك ما كتب خلاله أو بعده مباشرة من شعر ورواية، فأعمال تحكي عما وقع على الناس من تهديد وجوع وتهجير.
” الحروب الكبرى في العالم لم تنتج أدباً إلا بعد مرور سنوات عديدة”
اهتمت الرواية التي كتبت تحت ظروف الحرب بالعذابات والآلام والمخاوف؛ المجريات تحت القصف تبدو طازجة، الدماء لم تجف، والضحايا لم تدفن، والدمار على حاله وإلى ازدياد. ما يكتب بعد انقضائها بزمن قد يمتد إلى قرون، ليس البشر إلا أحد عناصره، الأحداث تعاد روايتها، داخل تصوّر هو الأشمل، فلا يُهمل الإطار العام للوقائع. فينظر إلى الحرب كحدث كوني هائل، الآثار الناجمة عنه تبقى إلى ما بعد عشرات السنين.
دور البشر محدود إلى جوار العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية… ولنتأمل في دلالة أن عشرات الآلاف من الجنود القتلى المجهولين، يجري اختصارهم بعد الحرب في تأبين جندي مجهول واحد.
لسنا في مجال المفاضلة بينهما، وإنما في التركيز على أن الروايتين لا تحدثان انعطافاً في الأدب، وإن تعيّشتا على الحرب. التجديد أكثر طواعية وانسجاماً مع فترات الهدوء والاستقرار، فالأدب ينشغل إضافة إلى موضوعاته، بمراجعة أدواته، وامتحان وسائله، ومواكبة احتياجاته بتجديد مماثل. غالباً ما تنتج الحروبُ أدباء يائسين وعدميين، ناقمين وموسوسين بالسلام، يهجسون بالجوع والفقر، تتراءى لهم الأسلحة عند كل منعطف.
الانقلابات إحدى الكوارث التي ابتليت بها المنطقة العربية في القرن الماضي، شكل الانقلاب أيقونة التغيير، وشاع افتراض بشّر بأدب انقلابي سيطيح بالأدب الرجعي. وما حصلنا عليه أدب شعاراتي موجّه ومباشر يخلو من الفن، في زمن كان الاستقرار خدعة، ارتكز فيه التجديد على عقل شمولي، أنتج القيود والكمامات.
مع الزمن لم يقدّم سوى المخابرات والمعتقلات والسجون والمشانق… وأيديولوجيا كانت الذريعة للهيمنة على الكتابة والكتّاب، ورقابة أدخلت أجهزة التنصت إلى مخادع النوم، وكتمت أنفاس الناس، بحيث أصبح التعبير عن الرأي زائداً عن الحاجة.
-
المصدر :
- العربي الجديد