لم تمض سوى سنوات قلائل على اختراع السينما حتى أثبتت أنها صناعة وفن، وبذلك رسمت حدود تطوّرها، طوال ما يزيد عن قرن من الزمن، خلالها أصبحت هذه الحدود عملاقة، والسكة التي اندفعت فوقها عجلات السينما؛ خطان، تأرجحت بينهما.

وإذا كانت قد بدأت في الهواء الطلق، فقد فضلت العمل في استوديوهات مغلقة. فبرزت كصناعة تبغي الإبهار بديكوراتها الضخمة، ما قادها إلى إعادة بناء مدن الغرب الأميركي وعروش إمبراطوريات وقصور ملكية وأنصاب وثنية… السينما الجديدة في أوروبا الستينيات كسرت هذا النمط، لعدم قدرتها على مضاهاة الإنتاجات الضخمة، عقدة هوليوود الدائمة.

لم تتغلب الصناعة على الفن، إلا لأن السينما لا تستطيع أن تدلل على إمكاناتها الفارقة إلا بإبرازها، ما يتعارض مع الفن الذي ينحو نحو الثبات والتأمل. من هذه الناحية، بدا الفن عدواً لسينما كان أكثر ما يعنيها، الجانب الذي يميزها عن بقية الفنون، وهو الصورة، ليس الصورة في وضع الثبات، بل الصورة في وضعية الحركة، وتخليق جمالياتها ليس في السكون، بل في الضجيج، سواء كان موسيقى، أو صفير قطار، أو قصف مدافع.

” حاولت السينما تحقيق المعادلة الصعبة: الفن + الصناعة”

حاولت السينما تحقيق المعادلة الصعبة: الفن + الصناعة. ونجحت مراراً، وظفرت بكلاسيكيات أصبحت محطات في تاريخها. الصعوبات التقنية التي واجهتها، أن إيقاع الفن البطيء يعرقل السينما كحركة، مثلما الصناعة تميّع الفن بمشهديات باذخة، وألعاب خارقة، من دون جدوى، لكنها تحبس الأنفاس.

السينما الأوروبية كانت حظوظها أكثر توفيقاً، حققت إنجازات مرموقة، وخفضت من تأثير المال والتجارة، مما أتاح لها رفع معدّل الفن في أفلامها، بميزانيات صغيرة متواضعة، تجلى في السينما الفرنسية مع الموجة الجديدة وسينما المؤلف، والسينما الإيطالية في مرحلة الواقعية الفقيرة، أنتجت أفلاماً رائعة، شكلت تيارات مؤثرة في تاريخ السينما العالمية.

الفن لم يشق طريقاً للسينما الأوروبية، بل انعكس في صعوبة تسويق أفلامها حتى داخل بلدانها، فالسينما الأميركية احتلت صالاتها، وكانت الأداة الضاربة لغزو عقل المتفرج، وتشكيل مزاجه في المشاهدة والترفيه والتفكير والأحلام.

على الرغم من التطوّر الهائل للسينما كصناعة وتجارة، فإنها لا يمكنها الاستغناء عن الفن، وإذا شاءت التعويض عنه بزيادة معايير الجريمة والعنف والرعب، ورفع مقادير الإباحة في العري والجنس، فهذه تقليعات إن لم يكن حاملها الفن وتواكب البشر، فلن تزيد عن لغو يخاطب الغرائز.

وإذا كان للسينما أن تراعي تاريخها فسوف تتعلم من جهدها واجتهاداتها، من طفولتها الصامتة المتمردة، إلى تعلمها الكلام، ونضجها المتسارع، ومحافظتها على شبابها، من دون أن تتقدّم في السن. ففي مسيرتها اللامعة، في كل خطوة، كانت تخلف وراءها شيخوخة عابرة.

الآن، والتجاعيد تظهر عليها، لن تنجح في تجديد شبابها، إلا بالكف عن تضخيم الذات، والذهاب إلى العالم للتعرف إلى الآخر. عندئذ يحق لها الادعاء بأنها الفن الذي لا يشيخ.