منذ بدأ العسكر يتدخلون في السياسة، لم يتحرّج الضبّاط من استعمال وصف “الثورة”، عند كل انقلاب واستيلاء على السلطة.

لم تتورع الكتابة، في ذلك الوقت، عن تبني الوصف ذاته، مع أن الذي قام بالانقلاب ثلة من الضبّاط المتآمرين. الكتابة كانت مضطرة، الانقلاب يشير إلى الخاكي والدبابات، بينما الثورة تشير إلى العدالة الاجتماعية والعمال والفلاحين، مع رزمة من الاتهامات يمكن إلصاقها بالبرجوازية، ما منح الكاتب الثقة بموقفه حتى إزاء ما يجري من تطاحن في العالم. أصبح في قلب الصراع بين القطبين المتناحرين منحازاً إلى المضطهدين، يخوض معاركه ضد الغرب الإمبريالي الآيل للسقوط.

رياح انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكّك الكتلة الشرقية، عاكست الكاتب، لم يعد لديه ما يدافع عنه، ولا الزعم بما يناضل من أجله، مادامت روسيا الوطن الأم للشيوعية العالمية تخلّت عن العمال والفلاحين والعالم الثالث، والتحقت بالرأسمالية؛ تنقذ دولتها المتداعية من السقوط الشامل في الحفرة التي طالما توعدت بها الأميركان وحلفاءهم الأوربيين وأذنابهم في البلدان التعيسة.

“أصبحت الكتابة هانئة البال، لكن الكاتب عانى قحطاً في القضايا”

اعتبرتْ الكتابة كل ما سبق، قضايا فات زمنها. القضايا المصيرية، لم تعد مصيرية، الزمن الغربي أرخى بظلاله على العالم، لم يعد العمّال والفلاحون على قائمة المضطهدين يقاسون البؤس، ولا الشعوب تعاني من النهب، ولا الثورة العالمية في الأفق. عصر سعيد بلا قضايا، عالم بلا اضطهاد واستغلال. قضايا الشعوب ليست إلا قضايا اقتصادية بحتة، تحسين ميزان الدولة من الخسارة إلى الربح، أما من سيربح ومن سيخسر، فغير مهم، الأهم الميزان.

أصبحت الكتابة هانئة البال، لكن الكاتب عانى قحطاً في القضايا. الغرب سينقذه لديه كثير منها، وإن كانت تافهة بالمقارنة مع السابقة، الغرب لا يكل عن ابتداع كثيرٍ من القضايا الإنسانية الجوهرية، ولا يملّ من الكتابة عنها.

حققت النقلة الجديدة، تواصلاً مع العالم المنتصر، جرى استعارة قضاياه الحقيقية والباطلة، والإيمان بها: حرية الرأي والتعبير، حقوق المرأة، الجسد، الأقليات، المثليون، التمييز العنصري، البيئة، عمالة الأطفال… وفرة في القضايا، بعضها كان من قضايانا المسكوت عنها، وبعضها الآخر أصبح من قضايانا بالعدوى.

الكتابة المسيّرة في اتجاه موحّد، أصبحت مُخيّرة بين اتجاهات عدة؛ الانتقاء مفتوح. وإن أصبحت تابعة لحكمة الغرب وحماقاته، أسيرة عقلانيته وجنونه؛ الالتحاق بها آمن، يمنح الكتابة شرعيتها وآفاقها، مرجعيتها عائدة إلى الغرب، في حال انصرف عنها، انصرفنا عنها. تخضع للسوق وغواية التجديد. ففي عصر الاستهلاك، الكتابة تقليعة، تُستهلك أسوة بكل شيء، ولكي تستمرّ على قيد الحياة، لابد من الدعاية والتنزيلات.

قبل خمس سنوات، فوجئت الكتابة بـ”الربيع العربي”، مجتمعات تفجّرت بالاستبداد، والطائفية، والإرهاب، والمعتقلات، والقتل، والتطرف، والديمقراطية، والتعذيب، وغياب القانون، والدكتاتورية… الربيع أمسى جحيماً من فرط ما أشعل من نيران. هناك كتابة لم تعبأ بجميع هذه الألغام والتفجيرات: الأمور على ما يرام، “الربيع العربي” مؤامرة كونية.