سجَّلَ شهر آذار/ مارس 2011، مظاهرات دمشق ودرعا، وانتقالها إلى عموم سورية. في الشهر نفسه، وصل رد فعل السلطة إلى الذروة بفتح النار على المتظاهرين، ما أدى إلى سلسلة من عمليات القمع ذهبت بالبلاد إلى حرب شاملة، كان بالوسع تجنّبها لكن خبرات النظام التي تكوّنت وتبلورت في مجزرة حماه عام 1982 استعادت المأساة نفسها، ولكي نضعها في نصابها: قام نحو ألف مقاتل مسلح من الطليعة المقاتلة بانتفاضة في حماه احتلوا على أثرها مكاتب الحزب ومراكز الشرطة، وقتلوا مناصري الدولة البعثية وسيطروا على المدينة.

بالمقارنة، مظاهرات آذار/ مارس 2011 تخلو من المقاتلين والأسلحة، وكانت احتجاجاً على اعتقال أطفال، وتعرّض وجهاء درعا للإهانة. اندلعت المظاهرات من أجل الكرامة، لا إسقاط النظام، وإذا كان شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” قد تردّد فلاتساع انتشاره، حتى أصبح تعويذة الحرية المضادة للطغيان.

لم تكن سورية معزولة عن البلدان العربية التي افتتحت التمرّد على السلطة، فكان من الطبيعي استعارة الشعارات. كانت تلك إحدى المرّات غير النادرة التي جمع الشعوب العربية فيها شعار واحد وهمٌّ واحد: التخلص من الاستبداد.

“لم تعد حماه إلا نموذجاً مصغّراً لما أخذ النظام بإعادة تدويره وتوزيعه”

استبق النظام التحاق الانتفاضة بـ “الربيع العربي”، باستلهام تجربته “الرائدة” في حماه: حصار وقصف وتدمير عشوائي، ثم تمشيط وإعدامات ميدانية، أخلفت أرضاً محروقة ومقابر جماعية.

بعد أربعة عقود، لم تعد حماه الشهيدة إلا نموذجاً مصغّراً لما أخذ النظام بإعادة تدويره وتوزيعه بالعنف ذاته على مختلف المدن والقرى السورية، استهلّه بالقنص، ثم استعمال جميع الأسلحة الخفيفة والثقيلة، مع الزج بجماعات الشبّيحة المعروف تفوّقها حتى على المجرمين أصحاب السوابق بالسلب والنهب والقتل والتنكيل.

كانت تلبية مطالب المحتّجين تؤدي إلى التطرّق إلى الأسباب الحقيقية لتجاوزات أجهزة المخابرات ما يستدعي محاكمتها، ويضع النظام برمته في قفص الاتهام، لذلك كان الإصرار على سحق المظاهرات السلمية، واكبها تسارع الانشقاقات في الجيش دفاعاً عن المدنيين، ما عجّل بتحوّل المظاهرات مع الوقت إلى مسلحة.

ولم تكن إلا من تداعيات تعنّت النظام في التشبّث بالحل الأمني والعسكري، وتوافد الميليشيات المذهبية من لبنان والعراق وأفغانستان، رافعة شعارات ثأرية تحت رعاية إيران. كذلك ظهور التيارات الأصولية في الثورة، وعبور “الجهاديين” الإسلاميين الحدود، والبدء بأكبر عملية تهجير للمدنيين السوريين هرباً من القصف.

اليوم ثمة تفاؤل وإن كان ضئيلاً، المباحثات الجارية في جنيف، وإن لم تبشر بخير سريع أو أكيد، لكنها باتت فاتحة الطريق إلى حل سياسي لا مناص منه. ما أفسح المجال لتعبير السوريين عن التمسّك به بعودة المظاهرات السلمية التي شكلت رغبة حقيقية في استعادة ما افتقد خلال السنوات الماضية، دلت إلى رجعة الروح. النظام سيسقط، ويرحل تاركاً خلفه بلداً خراباً، وأمراضاً مستعصية في الجسم السوري، ومئات الآلاف من الشهداء، وملايين النازحين واللاجئين.

الحرية ثمينة، كلّفت الكثير، أكثر مما يطاق.