الشائع أنه قلّما يخلو فيلم مصري من راقصة وطبّال، أو مسلسل سوري من ضابط مخابرات ومواطن مغبون. ليس لأن المصريين يحبّون الفرفشة، والسوريين كئيبون متجهمو الوجوه. وجودهم في الواقع، لا يبرّر سيطرتهم على الدراما، وكان هذا لأمد غير محدود، وبلا مردود، فلا المصريون تحسّنت أحوال معيشتهم، ولا السوريون تخلّصوا من المخابرات.

فكانت الدراما للترفيه عن النفس وللتنفيس عن الأوجاع، كلاهما لم يُفلحا، وكان في المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات خير دليل على أن الفن على هذه الشاكلة، ليس بلسماً للآلام، ولا يخفف من قمع الشعوب.

عمل صنّاع الدراما بأنواعها التلفزيونية على التكيّف مع نوعيات ملتبسة، فاختلقت وصفة معجزة في انتهازيتها بالانحياز إلى الظالمين والمظلومين في آن، فالظالمون يحق لهم أن يَقتلوا، والمظلومون يحق لهم أن يموتوا، ما أسبغ عليها صبغة الموقف بلا موقف، أصبحت العلم الوطني للدراما العربية.

الرواية اليوم، لا تخفي جموحها نحو التعبير المنفلت من القيود، لكن دونما هدف أو رؤية، ما يشير إلى أنها ستتعثر طويلاً، فالخيارات المتعددة، يشجَّع عليها دونما تمييز بجوائز بلا معايير واضحة، وإن حاولت الصحافة الثقافية المواكِبة لكل جديد، إغلاق هذه الثغرة، باختلاق مزايا مستجدة لرواية حديثة تكتب خارج النمط المألوف، وكأن هناك نمطاً مألوفا، جرى الانقلاب عليه.

” الرواية اليوم، لا تخفي جموحها نحو الخروج من القيود، لكن دونما هدف أو رؤية”

الامتياز الذي ابتكر لتسويقها كان التجريب، مع أنها تكتب دونما خبرة، وتفتقد لروح المغامرة التي تتباهى بها، إلا إذا كان تعقيدها الدليل على طليعيتها، فالتجريب للتجريب جهد عبثي لا جدوى منه، الفن لا يأتي من فراغ، وإنما يفرضه موقف الكاتب من الحياة والبشر. وإذا كان تميزها الأكبر التنويع والمساحة اللامحدودة التي تتحرّك فوقها، لكن الوقت قادم لتوحيدها تحت علم واحد، فيه تدجينها ونهايتها معاً.

هذا النهج وراءه سلطة ثقافية تدفع الكتّاب الشباب نحو كتابة رواية حسب المواصفات، توفر عليهم اللجوء إلى التظاهر للتعبير عما يطمحون إليه. دعم الرواية أقل كلفة من التهليل لدراما تأمل باسترداد الأموال الموظفة مضاعفة عدة مرات، بينما الرواية لا تحتاج إلا إلى جائزة ودعاية ووعود بالشهرة، بتشجيع آلاف الشبان والشابات على الانخراط فيها؛ وبذلك تمتصهم من الشوارع وترسلهم الى غرف الإلهام للكتابة بلا دليل ولا بوصلة، إذ لكل راغب قصة تستقى من ذكرياته أو ما سمعه من أقاويل الناس، يجري تطعيمها بالخيال، مع مسحة من الرومانسية، أو هامشية مجتمعات القاع، وقد يشتط بعضهم ويسترشدون بالجائحة الجنسية التي يعيش العالم على وقعها، وهكذا نحصل على رواية نظيفة.

إذا شاء شبّان الرواية أن تشكل رواياتهم منعطفاً تاريخياً، فلا بد أن تمتلك موقفا فكريا وإنسانياً واخلاقياً من قضايا عصرها، وليس في هذا تحميل لهم لما لا يطاق. هذا الاتجاه سلكه قبلهم ثربانتس وتولستوي ودستوفسكي وبلزاك وتوماس مان… وغيرهم من أئمة الرواية الكبار.