يذهب الظن أحياناً إلى انقضاء الزمن الذي كانت فيه الأمجاد تختص بالأعمال العظيمة مثل الحروب والفتوحات الكبرى، ولا تغفل شهداء القداسة وأصحاب المعجزات…
فالمجد لم يكن مبتذلاً، ولا يُمنح لـ “العوام” مهما كانت مآثرهم، وإن جاءت عصور وحاولت استدراك من فاتته هذه النعمة بمجد لاحق كتعويض عما لحقه من غبن، كما حصل مع الكثير من فلاسفة الإغريق الذين أعلى شأنهم عصر النهضة، وما زالوا يمارسون تأثيرهم في العالم حتى الآن، ماتوا كمدا، أو تجرعوا السم، ولم يكن في إنصافهم إعادة الاعتبار إليهم، وإنما إلى البشرية المدينة لهم. فالمجد لم يمنحهم وساماً أو مالاً، لكنه منحهم حياة متجددة من خلال أفكارهم، وقد تصبح حتى بعد إيداعها بين دفتي كتاب، طعماً للنيران، فأمجاد الغزاة تحيل أعمال المفكرين العظماء إلى رماد ودخان.
أعادت العصور الحديثة النظر إلى المجد، فالخلود يُداعب الدول مثلما يُداعب النفوس، لكن التاريخ سيطرح سؤالاً لا يمكن تجنّبه، هل يجوز فصل العامل الإنساني عن المجد؟
ولم يكن العامل الإنساني سوى ما يميّز الإنسان عن الحيوان؛ الدين والأخلاق والعقل، ما ينهى عن القتل، فلم تعد الفتوحات الكبرى أكثر من قتل مئات الآلاف من البشر، وتدمير المدن، وسبي النساء والأطفال، وجرّ الأسرى بالسلاسل. أما القادة العظام فلم يعودوا سوى عابرين في هامش التاريخ المأساوي للبشرية، فلماذا يكافأ السفاحون بالمجد؟ في الحقيقة، المَدَنية تكافئ الإجرام لأنه لا يزال فعالاً.
” المَدَنية تكافئ الإجرام لأنه لا يزال فعالاً”
من طرفه أيضاً، أسهم تقدّم العلم في تبديد الأمجاد الروحانية، فعمل على نزع الخرافة عن الدين، والتشكيك بأصحاب المعجزات والكرامات، تحت لواء: لا معجزة ولا قداسة سوى العلم. وسوف تعمل آلة الدولة على توظيفه في اختراع وسائل قتل أكثر فاعلية، وأشدّ فتكاً، فحازت الأسلحة على التقدير لقدرتها على إحداث حجم مهول من الدمار، وقتلى لا تستوعبهم سوى المقابر الجماعية.
تقدّمت الإنسانية في هذا الاتجاه أكثر مما تراجعت، فالعصور المتتالية أخذتها نزعة التفوّق على ما سبقها، فلم تتنازل عن حصتها من الأمجاد، لئلا يشطبها التاريخ من سجلاته، فكأن لا وجود لها إلا على صفحاته.
وبالنظر إلى أن لكل عصر معاييره المختلفة، والتي ليست سوى التدقيق في قوائم المجد الموروثة؛ فلم يعد مستغرباً أن تصبح العظمة لعبة العصور، يعاد ترتيبها، فعصر يسبغها وعصر يغفلها، فتساقط أباطرة وكرادلة ومصلحون دينيون… وكُيّفت الأمجاد لعظماء من نتاج مزاج العصر وحساباته، مع الأخذ بالحسبان المرشحين الدائمين، الذين لهم الأولوية، أولئك الذين يقتحمون القوائم بالقوة، الطغاة صانعو التاريخ، لولاهم لما كان عصر ولا قوائم.
المجد في نشر الموت، لذلك لم تفلت دورات الأمجاد المتتالية من سلسلة القتل، فلم يعدم طغاة عصرنا هتلر وموسوليني وستالين، ومؤخراً الطغاة الصغار، إحراز أمجادهم فوق الجماجم، طالما سفك الدماء أقصر طريق إلى الخلود.
-
المصدر :
- العربي الجديد