لم يلعب المفكّرون في الحروب أدواراً رئيسة، لو أن الأمر عائد إليهم، لاختفت الصراعات الدموية العبثية من على وجه الأرض، فالحروب وليدة الجشع إلى الاستيلاء على مقدرات الأمم الأخرى، أسهم فيها الاعتقاد بأنها صانعة الخلود. تخندق المفكّرون في الملاجئ، قد تحميهم من سيوف المتقاتلين ونيرانهم. كانوا مُراقِبين لا فاعلين أو مشاركين، وربما من هذا المأزق نشأت مهنة المؤرخ ومعها مهنة الكتابة.
قلّما حمل الكاتب السلاح، وإذا اضطر فدفاعاً عن النفس، اكتفى بالتفلسف وندب حماقات البشر، ومؤخراً التوقيع على عرائض الاحتجاج.
إذا كان القرن العشرون قد ابتكر “المثقف”، فمن أجل أن يمارس دوراً أخلاقياً، فكان داعية سلام بين البشر، وإنصاف المغلوبين على أمرهم الذين لا سند لهم. لن يقتصر دوره على صب لعناته على الحرب، بل سيتحدى السلطات القائمة، وينادي بنهاية عصور ارتهان الشعوب لطموحات الأباطرة والملوك والسياسيين؛ لن يكون المثقف شاهداً أعمى على مصائر غاشمة.
يلعب المثقف أدواره في حال تمتّع بقدر من الحرية، ما يسمح له بأن يكون مستقلاً بآرائه، بانتقاد سياسات تجري وراء المنافع. ففي النهاية الجميع خاسرون، منذ جعل الطغاة سفك الدماء ساحات التواصل بين الشعوب، لكن الانتصارات كالهزائم لم تضع حداً للحروب، فالطمع أقوى من العقل، ولا محل للأخلاق سوى أنها العائق في التقدّم نحو المزيد.
في القرن نفسه جرى تشويه “المثقف” بمحاولات إلحاقه بالسلطة، وأن يكون بوقاً لطموحاتها التسلّطية والتوسعية. تلك التي لا تتحقق إلا بالمجازر والإبادة والمعتقلات والسجون… هذا تاريخ شموليات القرن العشرين. الديمقراطيات كانت أكثر رأفة منها، لكنها لم تتورّع عن استعمال الأساليب نفسها.
أدانت السلطة المثقفين الذين لم ينصاعوا لها، ولم توفرهم من سلسلة تبدأ من الاعتقال إلى الإعدام، وطاردتهم إلى ما بعد الموت بتشويه سمعتهم. ليست طاقة المثقف على المقاومة خارقة، ولا بوسعه اختلاق معجزة في الصمود، يتعرّض المثقف إلى اليأس نتيجة حساسيته جراء رؤيته الهوة الواسعة بين الإنسانية في أعظم تجلياتها في الأدب والفن ونشدان الكمال… وبين الانحدار الأخلاقي المتجلي في أحط أنواع الوحشية والهمجية. المثقف إنسان مثل غيره، ضعيف يتعذّب ويتألم، إنسان أعزل، وأحياناً وحيد، ما قد يدفعه إلى الانتحار.
انتحار الكاتب مأساة، سببها العجز، فالكاتب ييأس، أكان يأسه افتقاداً للشجاعة على مواجهة الحياة، أو تنصلاً منها، فهو احتجاج على الظلم. في عام 1925 كتب الشاعر الروسي سيرغي يسينين بدمه قصيدته الأخيرة: “وداعاً يا صديقي، ليس جديداً أن نموت في هذه الدنيا، وأن نعيش”. صباحاً وجد مشنوقاً. اعتبر الشاعر ماياكوفسكي انتحاره خيانة للشيوعية، وبدافع من التزامه الأخلاقي، أضاف إلى قصيدة يسنين معنى يؤنبه فيه: “ليس من الصعب أن نموت، بل أن نصنع الحياة، أصعب بكثير”.
بعد خمس سنوات، في عام 1930، انتحر ماياكوفسكي للأسباب نفسها: اليأس من العالم.
-
المصدر :
- العربي الجديد