ترفع الأنظمة الشمولية شعاراتها إلى مرتبة المقولات المطلقة، يتوقف تأثيرها ليس على تعميمها، وإنما على تردادها في وسائل الإعلام كطقس يومي، يتكرر صباحاً ومساء. لا تستثني فئة من الناس، تخترق العقل وتغدو ثقافة راسخة في الأذهان، يُلهج بمفرداتها كأنها تعويذة منجية، تميّز الإيمان من الضلال، وتمتلك من الحقيقة أكثر من الحقيقة نفسها؛ ما يقود تحت راياتها شعوباً إلى التهلكة، وفي النازية والفاشية والستالينية أمثلة فاقعة على اعتناق الجماهير لها، وتخوين من يعارضها.

إذا كان العقل هو السلاح الأمضى لفضحها ودحضها، فلا ضمانة أن البشرية أصبحت محصنة منها، العقل نفسه معرّض لتأثيراتها، فالمصالح الأنانية تتغلب أحياناً. لذا نرى اليوم الدعوات العنصرية تطلّ برأسها في العالم الغربي “المتحضر” الذي عانى منها قبل أكثر من نصف قرن.

ابتلي العالم العربي بالكثير من المقولات الشعبوية الزائفة، ولا ريب في أنه حقق تراجعاته الكبرى على هديها، فبعد الاستقلال وسعي الحكومات الوطنية إلى التمهيد لنظم ديمقراطية، استولى العسكر على السلطة وأطلقوا شعارات كان أحدها “الحرية كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب” ولئلا يذهب الظن بنا بعيداً خارج حدود الوطن، المقصود فئة من الشعب، أكثرية كانت أو أقلية، أحاطت بها الشكوك لعدم مشاركتها العسكر دعاواهم، فاتهمت في وطنيتها، وأمست من الأعداء الذين لا يحق لهم التمتع بالحرية، فأسقطت عنهم حقوقهم المدنية.

” لذلك كان تعذيب المعتقلين حتى الموت فعلاً مقدساً”

في الحرب، أطلق شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” لبثّ الحماسة في الجنود وزجّهم في حرب يدفع الشعب من أبنائه تكاليفها الباهظة. أصوات العقل لن تُسمع إلا على أنها أصوات انهزامية تدعو لخيانة الوطن، بينما تُكتم أصوات القتلى، ويسبغ عليهم لقب شهداء بمنحة كريمة من السلطة. ولا تحاسَب الحكومات التي ورطتهم بالهزيمة، بل تصبح انتصاراً، ما دام النظام لم يسقط.

في عهود بناء الاشتراكية طُرحت الكثير من المقولات إحداها “لكل مواطن دوره في بناء الوطن” يمارسه الفلاح بالمعول، والجندي بالبندقية، والعامل في المعمل، والكاتب بالقلم، والأستاذ في الجامعة، والطالب في تلقي العلم…. لن يطول الأمر، عندما سيكتشف المواطن أنه ينتظر دوره ليُستدعى إلى التحقيق، أو ليعتقل، ويمضي في السجن أياماً أو أشهراً ، وربما سنوات طويلة، يخرج منه إلى القبر. الدور الوحيد الذي ليس هناك غيره؛ الامتثال الأعمى للنظام.

في العام الأول من “الربيع العربي”، شنّ النظام الحرب على الشعب، فتحوّلت المظاهرات السلمية، إلى انتفاضة، هددت الطغمة الحاكمة بالسقوط، فرفع النظام شعاراً كان مقولة جائرة، بلغت من الهمجية حدوداً رهيبة، بالتعميم على قواته المدججة بجميع أنواع الأسلحة الثقيلة بعدم ترك المدن الثائرة الآهلة بالسكان إلا دماراً وخراباً، فأصبح حرق البلد واجباً وطنياً.

تُحقِّقُ المقولات الزائفة أهدافها بتحولها إلى مقولات مقدسة. عندئذ يصبح القتل مشروعاً، لذلك كان تعذيب المعتقلين حتى الموت فعلاً مقدساً.