شكّلت الصورة الشائعة عن المثقف الطهراني، الأنموذج الأمثل للمثقفين الثوريين المتشددين؛ نحيلون يبدو كأنهم مصابون بفقر الدم، متوترون شاحبو الوجوه، عصبيون يدخنون بشراهة، ومنظرون عتاة. هذه الصورة تناكد مثقفي السلطة، ويخشون منها على صورتهم العصرية من التصدع في عيون مؤيديهم؛ فهم أقرب إلى البدانة، خدود متوردة، فوقيون، تلاعب في الكلام، تحايل على الحقائق…
هذه الصورة لا تزيح عنهم ما يتكبدونه من عناء في تبرير وقوفهم إلى جانب السلطة، فالديكتاتوريات لا شيء يشفع لها، لذلك فلنتصور مقدار الأكاذيب التي يتشدّقون بها لقلب جرائم النظام إلى سياسات حكيمة، وادعاءهم أن السلطة على صواب، لسبب جوهري، إنها ضد الإرهاب. بينما الواقع انتفاعهم منها، مقابل تسويق ثقافة الخنوع. فلا عجب أن الكذب بلغ حد الفجور.
أحد الآمال الحقيقية، كان في انضمام المثقف الثوري إلى ربيع الانتفاضة، وتصدر المظاهرات، إن لم يقدها، من دون أي تردد في الانخراط في النسيج البشري الهادر، انتصاراً لما كان قضيته العادلة. المؤسف أن هذا التصوّر كان محض تخيّل، وما حدث شكل فاجعة لا يستهان بها، فالحنين إلى الزمان اليساري استحوذ على الكثيرين، لذلك بولغ في التخيّل، فكان الواقع قاسياً.
” الحنين إلى الزمان اليساري استحوذ على الكثيرين وبولغ في التخيّل”
غياب المثقفين الثوريين، كان خسارة كبرى. وفي الحقيقة، إذا كانوا قد ظهروا، ففي الصحافة والقنوات الرسمية ووسائل التواصل الاجتماعي، لا ليشاركوا بالثورة حلمهم الأكبر، بل ليرتدّوا عما ضحوا به سنوات طويلة في السجون، وكأن أيديولوجية العنف الثوري ذهبت بهم إلى حيث يجب أن يكونوا. انتقدوا الربيع وعادوه، وتركوا الانتفاضة طعماً لدعاة “الدكتاتورية أو حرق البلد”، والمليشيات المذهبية، والغزاة المتأسلمين. تخلوا عن سورية وأودعوها بين براثن الفوضى والنهب.
ذاك الزمن اليساري لم يعد ينفع حتى للحنين، وقد يكون مجرّد ادعاء، وما سنوات السجن، إلا سنوات ضائعة من عمر ضاع هو الآخر في عذاب لا طائل منه، وما أحلام التغيير والنضال من أجل عالم أفضل سوى أن عدالة الماركسية غرّرت بهم. لم يستيقظوا منها إلا بعدما واجهتهم خيارات حقيقية ضد الطغيان. وكأن سنوات المقاومة والشقاء المريرة ذهبت هباء.
الحقيقة فضفاضة؛ تتسع للعديد من التفسيرات، حتى أننا قد نفقدها في خضمها، هذا إن لم تزد عن وهم. لكن الحقيقة لم تكن أوضح منها في العام الأول من الاحتجاجات السلمية؛ الشعب ضد الظلم، تجلّت في طلب العدالة والحرية. فالشعب نفض عنه لعنة المسيرات المسيّرة، والتصفيق الجماهيري لنظام كان يرفع على الدوام لواء القمع.
لا يمكن للسوريين استعادة حقوقهم المسلوبة بإيديولوجيات القتل والتخوين، وفتاوى التحريم والحرام…. لو أن يساريي ذلك الزمن وقفوا إلى جانب شعبهم، ولم يلتحقوا بمثقفي السلطة، لكان الماضي مشرّفاً لهم، بدل أن يبدو خطأ فاحشاً دفعوا ثمنه باهظاً في المعتقلات وأقبية المخابرات.
اقــرأ أيضاً
-
المصدر :
- العربي الجديد