تُوصف الرومانسية بالسذاجة، فهي تحلّق في سماوات العاطفة، وتخلو إلى أهوائها، تهيم بالأشجان، وتستنجد بالآلام، وتتآلف مع القلق والأرق، خاصة بعدما استحالت إلى سخف خالص بأقلام هواة الدموع والأوهام، اصطنعوها من سذاجات استيهامات تافهة.
لا يمكن التجرّؤ على القول إنها روايات تمثّل طفولة الرواية، لئلا نسيء إلى الطفولة والرواية معاً. الرواية حتى في طفولتها، أي بداياتها، قدّمت نماذج عبقرية، تصدّت للزمن، فلنقرأ “الحمارالذهبي” للكاتب لوكيوس أبوليوس (125 – 180 م) هناك من يعدّها أوّل رواية في التاريخ الإنساني، بوسعنا أن نتعلّم منها، ونتمتّع بها، وتأخذنا إلى عوالم من السحر والواقع والأساطير.
كان للرومانسية في عصرها الذهبي الفضل في بلوغ الأدب الذروة في التعبير عن تطلّعات الروح، ما زالت مؤثّراتها تتردّد من عصر إلى آخر، تتبدّى في لمحات تشعّ وتختفي، تسبر ما تزخر به النفس من عواطف ومشاعر وأحلام وآمال وأحاسيس وتخيّلات. تترك بمرورها لمسة من الصفاء، والحنين إلى زمن لم يمض، يمتح من طبيعة ثاوية بين جوانحنا، جاءت الصراعات والنزاعات وروح التنافس والأيديولوجيات لتدفعها نحو الظلام؛ فالعقل الذي يرفضها، تشغله عنها -حسب ادّعاءاته – دعاوى التقدّم وإحلال السلام في العالم.
” إننا في عصر يزدري البراءة ويطرد الإنسان الرومانسي إلى المصحّات العقلية”
مثّلت الرومانسية في زمانها ثورة على التشدّد الكلاسيكي في الأدب والمنطق، تحت تأثير ما خلّفته الحروب الدينية، والثورات الدموية، من خراب في النفوس، أفرزت اضطرابات، أدّت إلى صراعات في الداخل الأوروبي، وانتقلت إلى ما وراء البحار، ثم تجلّت في النزاع على المستعمرات. تركت الإنسان الأوروبي متشائماً، تنغل فيه أمراض الكآبة والإحباط والنفور من الواقع.
انعكست الرومانسية في الأدب بالدعوة إلى انفلات النفس من قيود التقاليد والأعراف والمجتمع، ليس بالتحلّل منها، وإنما بالتطلّع نحو النقاء والكمال، ورفض الزيف بالرجوع إلى الطبيعة، فلم تقتصر على الأدب، بل أسبغت روحها على الأديان، والفلسفة والأخلاق، والتاريخ والفنون الجميلة.
في مطلع القرن العشرين، انحسرت الرومانسية عندما شنّ أئمّة الواقعية الهجوم عليها، بدعوى أنها تسلب الإنسان عقله ورؤيته الصحيحة للأشياء بتهويمات ذاتية، وانصبت انتقاداتهم على جان جاك روسو داعية العودة إلى الطبيعة؛ فالحياة لا تحكمها العواطف والخيال، وإنما العقل المفكّر والذكاء الإنساني والحكمة الواعية والإرادة المدركة، والتي أخذت بالتجسّد في أيديولوجيا التقدّم الصناعي، الواعدة بالسعادة والازدهار الإنساني.
هذه الوعود ستذهب بالبشر أيضاً إلى تجارة الرقيق والعنصرية والاستعمار والمذابح، وإلى حربين عالميتين وحرب ثالثة في الأفق، قد تقضي على الإنسان …. أذا أردنا تعداد شرور العقل المفكّر والذكاء الإنساني فالقائمة طويلة، طالما أنه أصبح عصر الأسلحة والقتلة والديكتاتوريات.
التوق إلى الرومانسية، نشدان للحب المفقود، وربما المستحيل، والحاجة إلى الوفاء والإخلاص. المحبط أننا في عصر فاسق، يزدري البراءة، وينحو إلى الانسجام مع الخيانة والغدر والتسلّط والادّعاء. عصر ينبذ الرومانسية، ويطرد الإنسان الرومانسي إلى العزلة، وربما إلى المصحّات العقلية.
-
المصدر :
- العربي الجديد