يعطينا الإمبراطور نابليون بونابرت مثالاً فذاً عن رجل قصير القامة استطاع زلزلة العالم. الدليل لا يحتاج إلى برهان، فقد احتلّ أوروبا وغزا روسيا، ولا ننسى مغامرته المصرية. ولا ندري إلى أي حد كان الإمبراطور يشعر بالغبن عند استقباله لضباطه في القصر الملكي، أو انكبابه على خرائط المعارك في جبهات القتال، أو يستعرض جنوده، وإن كان على صهوة حصان، وقد أحاط نفسه بقادة فارعي القوام، وعشيقات جميلات وزوجات لا شك أنهن أطول منه.

إذا اعتقدنا أن نابليون كان يشكو فعلاً من قصر قامته، فقد حوّل عقدة نقصه إلى دافع إيجابي عوّض عنها بإنجازات هائلة، لم تكن موقعة “واترلو” إحداها؛ كانت هزيمته الكبرى التي ذهبت به إلى مقره الأخير في جزيرة القديسة “سانت هيلانة”، لكنها كانت هزيمته المشرّفة، فقد واجه جيوش أوروبا مجتمعة.

بعض مظاهر عقدة النقص تجنّبُ البشر والانسحاب من العالم إلى عزلة تراوده فيها وساوس الضعف، وأوهام التعويض عنها بالعنف. إضافة إلى الشعور بالدونية، فيخشى النساء والزواج، مع ازدياد التعلّق بالأم سواء كانت حية أو متوفاة… لكن وكما يقال: كل ذي عاهة جبار. ولا ريب، نجد الكثير من ذوي العاهات نجحوا في التحرّر من عقدهم، فبدلاً من أن يرزحوا تحت وطأتها، شكلت لهم حافزاً على الانفلات منها، ما فتح لهم أبواب العالم. فنابليون الرجل القصير سيطر على أوروبا، وكان رجل القدر، وفي قول آخر روح العالم.

يحضرنا رجل آخر حظوظه كانت أقوى بما لا يقاس، تميّز بالمقارنة مع نابليون بطول قامته، واستقام على عرش سورية دونما بذل مجهود، والذي يشكو ويا للغرابة من عقدة ما. لولا التوريث لما كان له أن يحكم هذا البلد المشاغب، قلب العروبة النابض كما يشاع عنه، لكنها مشيئة الأب، وطبيعة النظام الديكتاتوري، ومجلس الشعب الخالي من الشعب، ونظام انتخاب كان من صناعة القضاء والقدر المخابراتيين، ولا تشكيك بهذه الآلية الموثوقة ما دامت صناديق الانتخاب تأتي مختومة من أقبية المخابرات.

فالانتخابات في الدولة الشمولية من الأمور الشكلية، يشارك فيها الشعب بمسؤولية الاختيار ولو عنوة. وما على السلطة سوى تحقيق هذه الرغبة بنتيجة مسبقة، إذ ليس هناك غيرها. فالشعب اعتاد على أن الرؤساء مهما تتالوا، فالرئيس نفسه، سواء كان حياً أو ميتاً، رجلاً أو يافعاً أو في القماط، كلهم موعودون بالرئاسة، وكلّهم سيّان، أكانوا نعمة أو نقمة. وعلى الشعب ليظفر بالأمان اتقاء نعمتهم، كما نقمتهم.

ما علاقة نابليون بالرئيس المنتخب؟ إذا كان نابليون قد تغلّب على عقدة النقص بفتوحاته التي كلّفت مئات آلاف الضحايا، وكان من نتائجها نشر مبادئ الثورة الفرنسية، فإن الوريث المنتخب، دمّر سورية وهجّر الملايين، وقتل نحو خمسمائة ألف من السوريين، وكان من نتائج سياساته استقدام احتلالين، الإيراني والروسي.