ما تثيره الرواية من تساؤلات يفوق طاقتها على الجواب، عدا أنها تتراكم وتعيد نفسها مهما تجدّدت.
الفلاسفة سبقوا الروائيين في مضمار السؤال. تأمّل الحياة والكون ورطهم في غموض يتزايد، العقل لا يجيب عنه بقدر ما يعاند ويلف ويدور حوله. وإذا كان الغموض الصنعة اللافتة للرواية، فلأن السير في طريق مظلم أشد إثارة، بينما الوضوح يستنفدها، مع أنه جهدها الحاذق الأشد مخاطرة، لكنه ابتداع روائي. فالعلم أطاح بالكثير من مسلّمات الفلاسفة والمؤمنين، في حين تحرّك السحر في الدائرة الأوسع للإنسانية، دائرة الجهل والخوف والتخبّط. فلا غرابة في لجوء الرواية إلى السحر بامتطاء الخيال المجنح، ولقد برعت فيه.
ما تبعثه الرواية من شعور بالأمان، إحساس القارئ بأن ما يقرأه ليس الحقيقة، وإنما شيء يشبهها، ولا يبلغها، يقع في المسافة الفاصلة بين الواقع المتشائم والوهم المتفائل؛ فالقارئ لا يرغب في أن يعيش الواقع مرتين في آن واحد، ثمة هامش يسمح بالتأويل والتفنيد.
” لو جارت الرواية الواقع فربما أدّت بالقارئ إلى الانتحار”
لو أن الرواية جارت الواقع، فربما أدّت بالقارئ إلى الانتحار، أو اليأس، أو ارتكاب حماقة ما. مثلما لو أن جمهور رواية بلغ الملايين، فلن يوحدوا قواهم على قراءة واحدة، فتأثيراتها تختلف من جماعة لجماعة، ومن شخص لشخص. ولئلا نغمط الرواية عدم فاعليتها، نقول حتى الوقائع التي تقع تحت أبصارنا لا تتوحد رؤية الناس حولها، بل تفرّقهم مصالحهم وأنانياتهم وثقافاتهم وأديانهم وطوائفهم.
مهما بلغ الإسفاف بالروائي، فهو رجل يفكّر إلى حد ما، وبما أن الرواية تضطره إلى التحكّم بها بقدر من العقل لا نزول عنه، فلا تأكيد على النهائي، لذا يترك الباب موارباً. فلا الحقائق حقائق ولا الأكاذيب أكاذيب، وإذا كان يكتب في الفرجة بينهما، فلأن هناك متسع.
لا تُعنى الرواية بوضع نقطة النهاية، ليس لعدم قدرتها على وضع النهايات والإجابات، بل تغامر، لِمَ لا؟ الواقع أيضاً لا يلتزم بنهاية، بل يتواطأ على نهاية موقتة. هل هذا ما يسمح للحياة بالاستمرار؟ نعم، وهو بالضبط ما يسمح للرواية بالمضي قدماً، وكونها تُقرأ فهي في شباب دائم، ولم تفعل صرعة موت الرواية والروائي، سوى أن أمدتهما بأعمار إضافية.
إحدى مهام الروائي التذكّر والتذكير بين فترة وأخرى، عندما ينتابنا اليأس، أن الرواية ليس في وسعها ابتكار صيغة لوقف تردي العالم، ولا لعقلنته، شيطنته أسهل؛ إن قدرتها على المقاومة أجدى، فالكلمة تفعل وتتفاعل، وتختط دروباً إلى الضمير، ولو كانت القلوب مغلقة والآفاق حالكة، فالرواية تعاكس الظروف مثلما تعاكسها الظروف، قد تنتهج أساليب توحي بأنها لا تقول شيئاً، بينما هي تقول أشياء. فالروائي مضطر إلى اختلاق المعنى بأية طريقة، ولن تعيه الحيلة.
الرواية وصفة للحياة والموت أيضاً، وإذا أراد البقاء على قيودها، فالخيار واحد، الطرق على أبواب ما زالت موصدة، والخوض في مسالك قد تقود إلى لا شيء.
-
المصدر :
- العربي الجديد