“لا يزدهر الفن إلا في جو من الحرية”، مقولة رائجة حول الفن والحرية. طبعاً لا يُقصد بالحرية، حرية بلا ضوابط، فالحرية المطلقة تأخذنا إلى الفوضى المطلقة، وهي أشبه بالعبودية المنذورة لادعاءات التحرّر المتواصل. هذا من الضروري الإشارة إليه، كي نعي المنحة الثمينة التي توهب للفن، وتصادَر لصالح سلطة الممنوعات والمحرّمات، ولا يمكن استعادة نعمة الحرية إلا بقدر كبير من الإيمان بها، والنضال من أجلها، فالسلطات التي ابتكرت الرقابة، تشعر من دونها أنها مهددة.
لا الاستبداد ولا الرقابة بوسعهما إلغاء الفن. الأمر ليس بالقرارات ولا المراسيم، الفن عَصيٌّ حتى على الموت. الكثير من الأعمال المهمة لم تمنع ظهورها أزمنة الطغيان والعسف، فرواية “الدكتور جيفاكو” صدرت في زمن الدولة الشمولية، وكاد بوريس باسترناك من جرّائها أن يتعرّض لما تعرّض إليه أسلافه من النفي أو الإعدام. إبان “قضية دريفوس”، في حمأة غليان الرجعية اليمينية الفرنسية أعلن الروائي إميل زولا عن ظهور المثقف. الحملة “المكارثية” في أميركا على السينما، وبالرغم من ضراوتها، لم تستطع التأثير فيها، خلال سنوات قليلة استعادت حيويتها.
” إذا كانت الحرية عاملاً مساعداً والرقابة عاملاً محبطاً فكل منهما يعمل كمحرّض”
الرقابة، عدة رقابات؛ سياسية اجتماعية ودينية، خطرها التلاعب في حركة الزمن، وتحويلها نحو عصر متخيل في الماضي، تدعو إلى التماثل معه، أو تأسيس الحاضر على أنه المستقبل المنشود، ما يذهب بالفكر إلى التقليد بما يعزّز السطحية، والبقاء على ما نحن عليه، ننعم في اجترار استقرار كاذب.
الرقابة من أشد أعداء العقل، حتى لو هادنته، فمؤقتاً، الصراع بينهما يتردّد عبر العصور. يكرّس الاستبدادُ الاستنقاع في الركود، ويخشى الإبداع، لأنه يضجّ بالحياة، وفي حالة حركة دائمة، ينشد مجاراة المتغيرات. تهدف الرقابة إلى كفّ البشر عن التفكير، بزعم أن الحياة مكتفية بذاتها، وما إعمال العقل إلا شطط لا تؤمن عواقبه.
يلجأ الإبداع إلى المواجهة والمناورة، رواد الكشوفات العلمية، كانوا ضحايا إيمانهم بالتقدم، روح الإبداع تصادمية بطبيعتها، دفعت بهم إلى حدود الاستشهاد. وإذا هادن المبدعون السلطة فلدواعي الاستمرارية، لم يكن تراجعهم أو إنكارهم إلا على سبيل التحايل، المبدعون يخافون أيضاً.
تعمل الهيمنة على تصدير كتّاب مدجّنين، مشوّهي الضمير، مطواعين، موالين لأية سلطة (الدولة، المجتمع، التقاليد، الرفاهية البذيئة، الرخاء المصطنع، خزعبلات السوق…)، يجرون وراء مصالحهم، يقتبسون من أسواق الاستهلاك أفكاراً رائجة، ضالتهم المناصب، ذوي وجهين، أحدهما النفاق.
ينجح الكاتب المدجّن على حساب إغلاق الآفاق المشرعة على ترويض المستحيل. ما يُفقد الأدب جدواه وقيمته. فالانصياع للمنع والتواطؤ معه، يدفع إلى فبركة قضايا زائفة، واختلاق إشكاليات كاذبة، والمتاجرة بالجديد العابر، أي جديد كان.
يعمل الإبداع بالرغم من الرقابة، لا يقف ولا يتوقف عليها. فإذا كانت الحرية عاملاً مساعداً، والرقابة عاملاً محبطاً، فكل منهما يعمل كمحرّض. ودائماً، هبة الفن الإحساس بالحياة، والرئة التي يتنفّس من خلالها البشر.
اقــرأ أيضاً
-
المصدر :
- العربي الجديد