يتهم مثقفو السلطة المثقفين المنحازين إلى الثورة بأنهم لا يلامسون الواقع إلا في تخيلاتهم، فهم يغفلون عن المتأسلم الإرهابي المفخّخ والمدجّج بالسلاح، لا يرون سوى ملامحه الصوفية ولحيته الكثة في رحلة ذهابه إلى الجنة، ويغضّون النظر عن زناره الناسف، في متابعة رحلته إلى الجحيم.
يذهب الاتهام إلى تحذيرهم أيضاً من التدخل في قضايا تخصّ مصلحة الدولة العليا، ويصادر تذرّعهم بقيم العدالة والحرية، بأنها فعل سياسي، غير مؤهلين له، فلا الأدب ولا الفن على علاقة به. بينما يتعامى مثقفو السلطة، ومعهم الذين وقفوا على الحياد، عن كون النظام هو الذي فرّخ واستولد كائنات مشوّهة من إسلام زائف.
يتساوى مثقف السلطة مع دعاة الإرهاب، كلاهما لا يتكلّمان بلغة العقل. فمثقف السلطة يتكلّم باسم القائد الأوحد والزعيم الخالد، ومنطق البسطار العسكري. أما الإرهاب فيتكلم بمنطق السيف، وشريعة قطع الرؤوس والأيدي والرجم.
” يتحدر المثقفون الحقيقيون من شهداء العقيدة الأوائل”
أظهرت ثورات الربيع العربي تشرذم المثقفين، كشف عنها الثقافي الملتبس بالسياسي، فالذين انحازوا إلى السلطة، تستروا بغطاء المقاومة والممانعة، أما الذين وقفوا على الحياد فتحت غطاء السلم الأهلي. وكان في موقف كليهما تجاهل متعمد للنظام الشمولي، وإنكار لعقدة الاستبداد، واستنكار لانتفاضة الشعب ضد الظلم، بينما المثقفون الذين وقفوا إلى جانب الانتفاضة الشعبية، دافعوا عن تلاحم السياسي والثقافي وعدم الفصل بينهما، فالثقافة كانت على الدوام فعلاً سياسياً.
عندما كتب الروائي إميل زولا مقاله “إني أتهم”، ضد رجال الدولة الفرنسية وتواطؤ القضاء الفرنسي، استنكر خصومه تدخله في قضية لا تعنيه، إذ لا يجوز لروائي مهما كانت شهرته أن يأخذ مكان رجل الدولة أو القاضي، فالسياسة والقضاء اختصاص. وفي محاججتهم كانت دعواهم: ليس زولا أقل سخفاً وخسة مما سيكون عليه الأمر، لو أن ضابط درك تدخل في مناقشة تتعلق بالنحو أو العروض.
بالإعلان عن ظهور المثقف، جرى التأكيد على أن السياسة لا تقتصر على الأشخاص الذين مهنتهم شؤون الدولة، أصبحت تشمل الأديب والطبيب والجيولوجي وعالم البحار وناشطي البيئة… هؤلاء وغيرهم، يحق لهم التدخل في قضايا الشأن العام، وفي ذلك مثال شهير، فالفيزيائي المتخصص بالذرة حين يتحدث عن الانشطار النووي، يعبر عن نفسه بوصفه عالماً. أما حين يدين الاستخدام العسكري للذرة فيعبر عن نفسه بوصفه مثقفاً.
لم يستحدث المثقفون جديداً، سواء كانوا موالين أو محايدين أو معارضين، وإنما استعادوا نمطاً تاريخياً كان سائداً، فمثقفو الأباطرة والسلاطين، أصبحوا مثقفي السلطة، يساندونها في زمن الاستقرار، أما في أزمنة القلاقل والحروب فيتحولون إلى فصيل في مليشيات القمع، يسوغون القتل على أنه وأد للفتنة، ويبررون النهب على أنه مكافأة على التضحية.
يتحدر المثقفون الحقيقيون من شهداء العقيدة الأوائل، فهم معنيون بالدفاع عن إنسانية الإنسان. فالثقافة ليست أداة تبرير للظلم. إنها وسيلة لإثراء الحياة بمعاني العدالة والحرية.
اقــرأ أيضاً
-
المصدر :
- العربي الجديد