يلعب الفن في بلادنا دور المجني عليه، وغالباً ما يدّعي الفنانون أنه لم يأخذ حظوظه، فالدولة لا تهتم به، تعتبره عالة عليها، والجمهور لا يُقبل عليه، والإعلام يغمطه حقه من التقدير. وهذا يشمل جميع أنواع الفن مع بعض الاستثناء للغناء والقليل من التمثيل. ولا يعدم قدراً من الصحة، والتاريخ لا ينفيه.

الفن الذي ظهر على الفضائيات خلال صعود الثورات وانحسارها، بدا على غير ما ألفناه، كان قبل الثورات ثورياً، أو ادعى الثورية، ثم لم يخف عداءه لها، فكان الجاني على نفسه وعلى الناس، بتأييده للاستبداد. مع أن المسرح على سبيل المثال، وعلى طول تاريخه، اتخذ موقعه إلى جانب الشعب، حتى عندما مارس عروضه في بلاطات الملوك، لم ينحز الى الحكّام، سخر منهم بالقدر الذي امتدحهم، إن لم يكن أكثر، ولم يوفر رجال البلاط والنبلاء والبطانة الفاسدة، والعشيقات المدللات والملكات المصونات.

لم يسع الفن إلى السلطة، كان يسعى الى العدالة، فالضحك كان تشفياً من حماقات البشر، والمآسي كانت إدانة لأمجاد الملوك التي لم تتحقق إلا بالمقصلة وإسالة الدماء. ولنتذكر مسرحيات شكسبير وموليير وبومارشيه وفولتير والحكيم وإدريس… موضوعاتها انتقاد السلطات السياسية والاجتماعية والدينية.

” مأزق الفنانين هو استحالة تحييد الفن إلا إذا مُنع من التعبير”

الفن منذ سنوات وبقسمه الأعظم، إن لم نقل الساحق، وقف الى جانب الطغاة، ضد المتظاهرين والمحتجين، وإن زعم أنه كان في صفهم. مارس التزوير، وكان القائمون عليه غير بريئين، وجدوا لهم مكاناً بين تحالف السلطة ورأس المال وأجهزة القمع، أقل ما يمكن أن يوصف به هذا التحالف بالشيطاني.

وبات تزلف الفنانين للأنظمة مثار تندر واستهزاء ورثاء، بلغ من بذاءته وانحطاطه، أن فنانين وصلت بهم جرأة الوقاحة انهم كانوا أدوات للقمع، وانقضوا على المدافعين عن كرامتهم، وتهجموا عليهم، كأنهم يقودون فرقة عسكرية، وتحت إمرتهم سجون ومعتقلات. كل هذا دفاعا عن طغاة أساؤوا لشعوبهم، وأدانهم العالم. ما أفقد الثقة بالفن، واعتبر مجرد تجارة، رسالته الربح على حساب آلام الناس. وأصبح المشهد العام درامياً، الركوع في حضرة الاستبداد.

قد يقال، للطغيان سلطان، وما الفنانون سوى أفراد وحيدين وعزّل، وسواء تعرضوا للتهديد، او جرى التطاول عليهم، فليس بمقدورهم الدفاع عن أنفسهم، إنهم أناس عاديون، فلا نحملهم فوق طاقتهم، إنهم بحاجة إلى الشعور بالحماية والأمان. الفن لا يمنحهم حصانة تستثنيهم من العقاب.

اعتقاد أن الفنانين مثل غيرهم من الشعب، يحيلنا الى أنهم يعانون ما يعانيه، ويقاسون ما يقاسيه، ما يجعلهم يحسّون بعذاباته، ربما لو تحصنوا بالصمت والعقل، لكان أجدى لكرامتهم، لا أن يكونوا أبواقا رخيصة للدعاية.

مأزق الفنانين هو استحالة تحييد الفن، إلا إذا مُنع من التعبير، إنه قضية كبرى بحد ذاته، وبطبيعته الخلاقة منحاز للحقيقة، لا يكتسب الشرعية إلا في عدالته، من دونها يفقد جوهره الذي هو الحرية.