شهد العالم مع بداية القرن الواحد والعشرين طفرة في جميع المجالات، ما أوحى ببداية عالم جديد. هذا ما أراد السياسيون والمثقفون الاعتقاد به ليُضفوا على هذا القرن أهمية خاصة، لئلا يكون مجرّد ملحق بالقرن العشرين، فبشّروا بقفزاته الموعودة في أواخر القرن الماضي مع سقوط جدار برلين، غير أنّه لم يمض أقل من عقدين حتى خيّب توقعاتهم الجزافية؛ فارتفاع مستوى النهب العالمي، وارتداد الإرهاب وامتداداته، وتصاعد العنصريات، وهيمنة المافيات، وغسيل الأموال، وظهور الدكتاتورية بوجهها الفج، وانتشار الفضائح الجنسية بشكل غير مسبوق، إضافة إلى تململ الشعوب وانتفاضاتها غير المتوقعة، وما نجم عنها من كوارث في خراب المدن ونزوح الملايين، وعجز العالم عن مجابهة الطغيان، ووضع حد له.

جميع هذه الانتكاسات، حذّرت من قرن استهل بالفوضى، إن لم يستدرك بأجندة شاملة من المبادئ والقيم الإنسانية، سيرسم الجحيم خطاه، ما دام النفاق هو السائد، لا العجز، فالدول الديمقراطية حافظت على ارتفاع نبرتها في التأكيد على الحريات، تحت سقف سياساتها البراغماتية، والاحتجاج بسيادة الدول.

فمبادئ العدالة الكبرى لم تعد تتداول إلا في المؤتمرات الدولية، وتختفي من على الأرض. وأدى تواري القيم الأخلاقية إلى ظهور سياسيين يكذبون بلا حرج، ولا اعتذار أو تبرير. والأدهى ظهور الرؤساء الحمقى يشغلون شعوبهم بتصريحات عابثة وحروب عبثية.

بينما العالم المستريح، ينحو إلى المزيد من الراحة، والثقة بتنبؤات تُجاري توقعات الفلكيين قارئي الغيب، فلا يستبعد أن تكون التحوّلات القادمة، خاضعة لغموض حركة الكواكب، يقرأها أناس يتعيّشون على حظوظ سيتمخض عنها مستقبل ما، لن تفاجئ العالم إلا بالمزيد من الفوضى، بعد إخفاق الغرب في فهم التحوّلات الجارية، وأفضل مثال هو “الربيع العربي”، في وقت كان تقييمه للشرق العربي الهاجع في النوم تحت ظلال بطش الدكتاتوريات، لا ينال منها أي تحليل متفائل، لكن الشعوب كذّبت توقعاتهم بمظاهرات واحتجاجات كاسحة، أيّدها الغرب في المحافل الدولية، وفي السرّ كان ضدها، اعتقدَ أنها غير جاهزة للديمقراطية، وذاهبة إلى التطرّف، بالاسترشاد بأزمنة إسلامية طواها الماضي، فكان الانحياز إلى علمانية دكتاتوريات تقوم عليها مافيات سياسية تحت عباءات ليبرالية.
يوصف عصرنا بعصر الكذب والدجل، وفي هذا مبالغة، ولو في توالي إخفاقاته وخيباته. فالغرب رغم تجاربه المؤلمة، لم يتعلّم من عذاباته التي تكبّدها في التصالح مع الأديان وإرساء الوئام المجتمعي، والثورات التي خاضها للتخلّص من الدكتاتوريات، وما كلّفته إياه الديمقراطية من دماء. لم تجعله يدرك أن الخلاص ليس فردياً، ولا على مستوى الدولة الواحدة، أو القارّة، وإنما إنسانياً. إن لم يقر بأن الدولة الشمولية هي الشرّ بحد ذاته، ولا تشفع لها علمانيتها الزائفة بالبقاء على قيد الوجود. ويبادر إلى التعاضد مع العالم المحروم، فسوف يتآكل هو نفسه بفعل الفساد.

إن لم تتعلّم الإنسانية من أخطائها، فهو قرن اللايقين.