يبدو التاريخ للنظر المدقق الشكّاك بلا معنى، فمثلاً ما الذي يمكن استخلاصه من غزو نابليون لأوروبا، ألم يكن لنشر مبادئ الثورة الفرنسية في الحرية والعدالة والمساواة. ما الذي حدث؟ ما طمحت إليه أوروبا ارتدّت عنه، وما مارسه نابليون خلال سنوات حكمه، كان شيئاً لا يقل دكتاتورية عمن سبقه من الأباطرة والملوك، فالمبادئ كانت وسيلة للهيمنة. فلا نتفاءل بالتاريخ، فهو يعيد نفسه، ليس بالدقة نفسها، ولا بالمهازل ذاتها، لكنه يشبه بعضه بعضاً، والمآل متشابه.

في مسيرته العبثية لا ينتج التاريخ سوى العبث، وإذا كان هناك من اتجاه فإلى اللامعنى، لئلا نعقد الآمال عليه. ليس في هذا تشاؤم، بل كيلا نلتمس من التاريخ أفقاً، الإنسان وحده يصنع المعنى، أما التاريخ فلا يعوّل عليه، قد يرتد إلى الخلف.

يجد الذين لا يثقون في التاريخ خرافة اصطنعها المؤرّخون، وأسقطوها في حبائل الاقتصاد والجغرافيا، كأنما هو مسير منهما، قد يؤازرانه، أو يصبحان ضده، امتثالاً لمصادفات تهزّ أركان الدول وتفرط حسابات تاريخ مهما كان حقيقياً، غير متفق عليه، فالمصادفات لا تعبأ إلا بالأقدار، وهي اختراع روحاني، تلصق بها كافة الانهيارات اللامتوقعة.

” في مسيرته العبثية لا ينتج التاريخ سوى العبث واللامعنى”

في عصر وسائل الاتصالات، مع ظهور الكاميرا وأفلام الفيديو وحضور المراسلين في مواقع القتال، استعاد التوثيق حجّيته لدى محاولات اقتناص ما يجري، في ظل انتشار احتجاجات وانتفاضات وثورات وضحايا بالملايين، تتسارع تحت قبضة أنظمة حكم دكتاتورية.

لم يعد التوثيق ترفاً أو حكراً على الهواة مع توافر وسائل تنقل الحدث في التو واللحظة، وأصبح تسجيل وقائع الحدث، أقرب إلى دقة العلم، لا يمكن دحضه، ولا التلاعب به. ما جدّد الآمال بكتابة تاريخ نهائي، وإذا أسعفنا الحظ، فإدراك هل الحرية حتمية، أم أن الثورات تهدر الضحايا بلا جدوى، وإلا فلتتوقف عن بذل القتلى والشهداء، ولتنكفئ إلى أجل غير مسمى تحت رعاية الصمت، فالإصلاحات الموعودة في علم الغيب.

سرعان ما جرى التنبه إلى هشاشة التاريخ وقابليته للتزوير، بعدما أصبح هناك تاريخان، كل منهما نقيض الآخر، الدكتاتوريات تعبأ بتاريخ آخر، يجاري غاياتها ومصالحها، إذ لا بد من ذرائع للقتل بالصوت والصورة أيضاً.

ذهبت حجّية التوثيق أدراج الرياح، ما دامت الدول الكبرى راعية الدكتاتوريات تبرمج الرياح على نحو ما تشتهيه، وتحوّل الشعوب الغاضبة إلى شعوب مارقة، والشهداء إلى مجانين. وبات التوثيق يجاري أهواء محللين مأجورين يميل بهم الرأي لأسباب قومية أو دينية أو أيديولوجية أو منفعية، أو رغم أنوفهم. فالتاريخ الذي كان أقرب إلى الفن والتخمين والظن، لم يعد بسبب التوثيق اللئيم والانتهازي إلا الامتثال للقوة. وبوسع الدول الكذب جهاراً نهاراً، ما دام يقودها رؤساء فاجرون، بلا حياء ولا ضمير، سحقوا شعوبهم بصفاقة، أعجزت “الأمم المتحدة”، لمجرّد أن استراتيجيات دول كبرى ترعى وقاحاتهم، مثلما تدعم وحشيتهم.