إذا كان هناك زمان ساءت فيه سمعة المثقف في البلدان العربية، فزماننا أسوأُها. بات من الطبيعي تنصّل مثقفين من صفتهم، والسخرية منها، بعدما كان التباهي بها سارياً، منذ اكتشاف مصطلح “المثقف”. كان علامة تميز، وأصبح مشكوكاً فيها، وربما لعنة، تحيل إلى الخيانة أكثر منها إلى الالتزام بقضايا إنسانية، في زمن لا يعتبر فيه الكاتب مثقفاً إلا بالانخراط في الشأن العام، واتخاذ موقف صريح من العدالة والحرية والحقيقة.

يحيلنا الاستهجان إلى مثقفين في الداخل السوري، ولئلا نبالغ في صفتهم، ليسوا أكثر من عاملين في وسائل الإعلام من جرائد ومحطات فضائية رسمية، إضافة إلى صانعي دراما في التلفزيون والسينما. يقومون بتسويغ ما يقوم به نظام مخابراتي. هؤلاء ليسوا مثقفين علاقتهم بالنظام أوثق، ليسوا أكثر من موظفين، مصالحهم مرتبطة به، وربما حياتهم وحياة أولادهم. ومثلهم كثيرون، أفضل ما يفعلونه هو عدم مشاطرة النظام جرائمه، فهو ليس بحاجة إليهم. لو أنهم لا يتطوّعون لتقديم الخدمات له، وتبرير فساده… لكان موقفهم مشرفاً.

” إذا كان هناك زمان ساءت فيه سمعة المثقف في البلدان العربية، فزماننا أسوأُها”

إذا شئنا الحديث عن المثقفين، فأدونيس يقدّم المثال الناصع على المثقف المنحاز لرؤيته التي تتقاطع مع النظام، رغم الاختلاف البيّن بينهما، والذي تنبّأ باتجاه الانتفاضة نحو الأسلمة لمجرّد أن المظاهرات خرجت من المساجد، وكانت في مرحلتها السلمية، لا أكثر من احتجاجات، فلم يُعن بالشبان الذين خرجوا من الجامعات، وحوصروا، واعتقلوا، ونكّل بهم في المعتقلات، إن لم يعاجلهم القناصة بالرصاص الحي في ربيع الاحتجاجات.

أدونيس وحده، وبشكل مبكّر، اكتشف آفاقها، وبشّر بالأسوأ، وتحققت نبوءته. لن نقول عن أدونيس إنه علام بالغيوب، مع أنه يحق له، فقد كان خارج سورية، ولا يتردّد عليها إلا نادراً، ولم يكن شاهد عيان على الحراك السلمي. أبسط ما يقال إنه صدّق دعايات النظام، ولم يأخذ بمظالم الناس وهتافاتهم للحرية. بصريح العبارة، انحاز إلى علمانية النظام، ولو كانت شكلية، مع أن النظام يحرص على البقاء لا على العلمانية.

شكّل أدونيس انتكاسة للثقافة، وأكبر صدمة للمثقفين، مهما حاول ومعه مؤيّدوه ترقيعها بمختلف الدعاوى الحداثية. وليس الوحيد من كبار المثقفين الذين أخطأوا في حق شعوبهم بالحرية، سبقه رعيل من المثقفين الألمان انحازوا إلى النازية، ومثقفين سوفييت انحازوا إلى الستالينية، وإذا كان لديهم أسبابهم الأيديولوجية والعنصرية، فقد يبدو أدونيس بلا سبب، لكنه ليس فريداً. إذا نحينا دعواه الملتبسة في الحرية التي يمنعها عن السوريين بدعوى أنهم غير مؤهلين للديمقراطية. فلماذا لا يكون موقفه طائفياً على نحو رشيد، اعتقد أن الثورة إذا انتصرت فستستبيح طوائف الأقليات.

هل كان على حق؟ وهل كان في موقفه ما أنقذها؟ الظن الذي يقارب اليقين، أنه سوّغ التورّط في الدفاع عن نظام شمولي. بينما لو وقف مع الثورة، فعلى الأقل، ما تذرّع بموقفه المئات من أشباه المثقفين.