يُتّهم بعض الكتّاب بأنهم يكتبون في عزلة، فالعزلة تضارع الأبراج العاجية، وكانت دليل الاتهام ضد الكُتّاب الرومانسيين والبرجوازيين. انتقلت هذه الاتهامات من الماضي إلى الحاضر، وأضيف إليها قائمة أخرى، لا تخلو من شبهة التنكّر للطبقة العاملة، بموجب أدلة ساقها كتاب حزبيون ثورجيون يكتبون في الجرائد الرسمية الحكومية، أدانوا الكاتب لإصابته بواحد من أمراض الثقافة البرجوازية البائدة، حتى لو كان الكاتب بحاجة إلى التأمل، فالعزلة ما هي إلا التعالي على الناس، بينما عليه الالتحاق بالشعب، وإلا استحق النبذ.
كانت البروليتاريا الورقة الرابحة بيد المثقفين الثوريين، الأوصياء عليها، فالمستقبل أصبح ملكية حصرية لها. وهكذا غدا للثرثرة النصيب الأكبر في التنظير الفكري، وانتهى زمن العزلة، إذا كان لها زمن، فهم حسب الراديكالية الثقافية لا يشاركون الشعب أفراحه وأتراحه.
” بديل العزلة، كان مراكز الحزب، والمهرجانات الجماهيرية”
بديل العزلة، كان مراكز الحزب، والمهرجانات الجماهيرية، والقاعات المخصّصة للخطابات القومية… كذلك المسيرات، الأكثر تطوّراً من المظاهرات التي كانت بضع مئات تخرج أشبه بهبة شعبية، رداً على إجراء دولي معاد، يعبّر فيها المتظاهرون عن غضبهم العارم، سواء برضا الدولة أو عدم رضاها. بعد التصحيح، فُرض التقنين على الغضب الجماهيري، وأن يحوز التعبير عنه على رضا النظام، والموافقة على الشعارات المرفوعة؛ عادةً يُزوَّدون بها.
تمظهرت المسيرات بخروج الآلاف المؤلفة من موظفي الوزارات والدوائر الحكومية والمؤسسات الرسمية والجامعات والمدارس… ينطلقون صباحاً من وظائفهم جماعات متكاتفة، ومن الأرياف يتدفّقون بالباصات، يطوفون أرجاء المدينة، يتجمعون في مسيرة واحدة، تحطّ في ساحة، ثم يأتي مندوب الحزب، يلقي خطاباً جامعاً، بعدها يغادر، فيغادرون.
في ذلك الوقت، بدت ابتكاراً بروليتارياً حداثياً، من تصنيع المركز الأم للشيوعية، كآخر طبعة ضد الإمبريالية. بينما كانت جهداً متميزاً من بنات أفكار المتربعين في مكاتب صنع القرار في النظام، حيث تطبخ التوصيات، وترفع إلى رجل القرار الأوحد، وتصدّر على أنها ابتكار سيادي. كان من فرط نجاحها، أن حظيت بوفرة في الإقبال عليها، ما دامت تنتزع من الدوام الرسمي، وتعتبر يوم عطلة إضافي، منحة من الأب القائد، ما شكل استثماراً قومياً ووطنياً، وإن لوحظ غياب ملموس للعمال والفلاحين، اللذين يقع عليهما بالدرجة الأولى التعبير عن تأييدهما لنظام جاء على أكتافهما، ولم يستفيدا منه، لكن رغماً عنهما توجّب عليهما الظهور بمظهر المغتبطين في مسيرة لا تسير من دونهما. طبعاً، لم يُقبل لهما الادّعاء بحجة مرفوضة، وهي أن وقتهما لا يتسع إلا لتحصيل لقمة العيش، فالهتافات مثل النظام، لا تطعم أولادهما خبزاً.
بالعودة إلى العزلة المدانة، كانت في إرهاصاتها الأولى، ابتعاد عن المشاركة في التظاهرات الموجهة والمسيرات المُسيّرة، والحزب القائد، لكن بعدما أصبح للوطن سيد، وللخلود رئيس، وللرئاسة وريث. اتسع مفهوم العزلة والتبس بالعمالة. فقد أصبح للنظام مثقفون أوفياء مأجورون، يلوّحون بتخوين العزلة والكاتب معاً.
-
المصدر :
- العربي الجديد