تزعَم أغلب وسائل الإعلام الحياد، خاصّة في نقل الخبر، فلا تتدخّل فيه بإبداء الرأي. تحت هذا المبدأ المتعارَف عليه، يُشجّع على الحياد كمهنية لا يتطرّق إليها الشك، فلا يزيد عمل الإعلام الرئيسي عن نقل الأخبار.

هذا ما تُعلنه القنوات الرسمية الحكومية، في معرض تأكيدها المتعمِد على نزاهتها. أمّا القنوات الخاصّة المموّلة، فلا يُعوَّل عليها، فهي لم توجَد إلا لتنحاز، مهما اصطنعت الحيادية في توخّي الحقيقة. على كل حال، ماذا لو كان الخبر نفسه كاذباً؟

في عالمنا المعاصر، يُنظَر إلى الإعلام على أنه نعمة الحضارة والمعرفة، فقبل ظهوره، طوال قرون مضت، كان سكّان أي بلد يجهلون ما يجري في قارّات بعيدة، أو حتى في بلدان مجاورة، فخبر عن حصار مدينة أو انتشار وباء، كان يقطع عشرات، وربما مئات وآلاف الكيلومترات، مشياً وركوباً وبحراً، ليصل بعد مرور أشهر أو سنوات إلى هدفه، ولا تسل عمّا أصابه على الطريق من زيادة ونقصان، هذا إذا لم يُصادفه قطّاع الطرق. أما اليوم، فالأخبار تنتقل في التوّ واللحظة، من أقاصي الأرض إلى أدناها، بالصوت والصورة… فيا لهذه النعمة.

” يُنظَر إلى الإعلام على أنه نعمة الحضارة والمعرفة”

وجدت الحكومات بأنواعها المختلفة، الديمقراطية وغير الديمقراطية، في التحكّم بنقل الخبر، ما يُؤثّر في قرارات الدول الاقتصادية والسياسية، ومصالح الشركات الكبرى ورجال الأعمال، فكان في تصحيحه، وربما ادعاء تصويبه، بإدخال التعديلات عليه، فائدة تصب في المصلحة العامة، والشعوب تُصدّق إذا سمعت ورأت، فتنساق وراء سياسات الدولة، تؤمن بها، وتذود عنها، وإذا استدعت الأمور، تُضحّي بالنفس. فالشعوب تدفع تكاليف تنفيذ سياسات حكوماتها سواء كانت هادفة إلى الحرب أو السلام، أو تنحو إلى الرخاء أو شد الأحزمة على البطون.

في العالم، أصبح من المعترَف به، أن الإعلام وسيلة من وسائل الإقناع اللينة، ذات النوايا الطيبة، واتّفق على أنها من وسائل الخداع الطيّب والتضليل النافع. فالحقائق الواقعية لا تصنعها المصالح الحيوية، إلا إذا سوّقها إعلام يستعين حتى بالأكاذيب في ترويجها.

يُقدّم لنا الإعلام عالماً مصنوعاً على مقاييس مخطّطات سادة القرار، عالم ليس الذي نطمح إلى التعرّف إليه، بل ما يرغب الآخرون لنا بمعرفته. إن السيطرة على الوعي، تقود البشر إلى الدفاع عن قضايا ليست قضاياهم، والتحريض على خوض حروب من الممكن تجنبها. تلك من سيئات العيش في عالم متطوّر مستولى عليه، يتحكم به إعلام لا يهتم بالخير بقدر توسله الشر، فالمعيار هو الجشع. والرفاهية لا تعني شعوباً تعاني من الجوع، ما دام أنها حكر على العالم المتقدّم.

يُقدّم “الربيع العربي” مثالاً ناجحاً، فمثلما سانده الإعلام العربي والغربي، وقفا ضدّه في ما بعد. ومثلما أدانا النظام السوري من قبل، يسعيان اليوم لإعادة تأهيله في المجتمع الدولي. هذه التحوّلات، تنحط بالإعلام إلى الإرهاب، ريثما يعاود إرهاب الدولة القتل تحت رعاية دولية.