تلقى مذكّرات السياسيّين إقبالاً ملحوظاً في سوق الكتاب، فدور النشر تتسابق إليها، والقرّاء بحكم الفضول يرغبون بالاطلاع على ما كان وراء الأحداث التي عاصروها، وأثّرت في بلدانهم، وربما في العالم، عدا الاهتمام بمعرفة ما أحاط بها من أسرار؛ مناورات ومساومات وضغوط وتنازلات وتهديدات، ما يصح أن نطلق عليه كيفية صناعة الأزمات الدولية التي تتشارك بها الدول الكبيرة على حساب الدول الصغيرة، ما يكشف عن المصالح الانتهازية التي يسير العالم على إيقاعها.
عموماً، لئلا نتفاءل، لا تذهب مذكّرات السياسيّين نحو الكشف، وإنما نحو الإخفاء، ولو زعمت أنها تفتح مجاهيل الأبواب الخلفية للسياسة، وذلك عندما كانوا في مناصبهم: رئاسة الجمهورية، مدير إدارة في المخابرات، أو منصب كان له تأثير في اتخاذ قرار مهم في حدث عالمي عاصف، ما أدى إلى آثار بعيدة المدى، مثلما جرى في الحربين الأفغانية والعراقية، ومن قبل الحرب الباردة، أو ما سبق من حربين عالميتين.
” المذكرات تقتات من الصراعات والتجاذبات السرية للحكومات”
فالمذكرات تقتات من الصراعات والتجاذبات السرية للحكومات. ولا نستبعد في يوم قريب، إصدار سلسلة من الكتب تتطرق إلى الحرب السورية في دهاليز الدبلوماسية في الأمم المتحدة، وجنيف والكرملين والبيت الأبيض وطهران الخمينية والقصر الجمهوري، ربما عرفنا شيئا عن تلك الاتفاقية النووية الجائرة التي أخضعت لمساراتها قضية شعب سورية بأسره.
مذكرات السياسيين لا تكتب اعتباطاً، وإنما بهدف عاجل، عادة بعد مغادرة مناصبهم، فما كتبه السياسي كان لهذا الزمن، ولغاية محددة وواضحة، الدفاع عن سياساته، وإسباغ الأهمية على فاعلية دوره، وربما ـ يا للسخرية – دوافعه الأخلاقية، وتبرئة سمعته جراء أخطاء وقعت إبان عهده، إضافة إلى فضحه بعض الأسرار التي انحطت إليها ممارسة الحكم، فالمصداقية المدعاة للسياسي تلزمه بالتحلّي ببعض ما يتنكر له، وإلا فلن يوضع كتابه على لائحة الأكثر مبيعاً لزمن يتراوح بين أيام أو أسابيع، تتكفل به صناعة النشر، وتسهم به الدعاية المكثفة، ما يعوضها ويزيد عما دفعته لشراء حقوق النشر.
يكتب السياسيون مذكراتهم للأحياء فقط، لا للتاريخ، ولا يطمحون بأكثر من ذلك. مع أنهم يعرفون أنها أصبحت في عهدة التاريخ الذي لا يرحم. لذلك ينصب اهتمامهم على الأحياء، لأمد قصير لا يطول. يعرفون أنه بعد صدور كتابهم بأشهر معدودات لن يبقى منه، إلا بعض التعليقات عليه، ثم يطويه النسيان، ولن يعود له من وجود، إلا في هوامش دراسات وأبحاث تاريخ تلك الفترة.
للتشويق، تستمد المذكرات مادتها مما حدث خفية، لكن بحذر يُسهم بخفاء أكبر، وتتجاهل تأثير سياسات مُرّرت من قنوات شديدة السرية، استدعت انقلابات وصفقات ونكول عن تعهدات ومواثيق وانتهاك لحقوق الإنسان، وما رافق اتخاذ قرارات مؤثرة من تعتيم، والأهم إغفال الحقيقة، تلك هي الضحية، ومعها المخدوعون من القرّاء.
بالنسبة للمستقبل، ستسهم في تشويش المؤرخين، لكنها لن تنطلي عليهم.
-
المصدر :
- العربي الجديد