تُنسب إلى الكاتب القدرة على قول الحقيقة، بالنظر الى تمكّنه من استخدام الكلمات وتطويعها، لقدرتها على أداء دور مؤثّر يُدعى “فعل الكلمة”؛ ففي القرنين السابقين أخذ روائيّون في العهد الفيكتوري تعليم الناس الفضيلة، وكان لهم الامتياز في انتشار قراءة الروايات بين الأسر الراقية الإنكليزية والمجتمع الأميركي المتزمّت، كتقليد عائلي أرستقراطي، لا سيما في الشتاء؛ حيث يتحلّق أفراد العائلة حول المدفأة.
كان الإقبال على روايات جين أوستن ينحو إلى تعليم الفتيات الحصول على زوج ثري ونبيل بأساليب بمنتهى الحشمة والوقار، لا تخلو من عواطف تتميّز بالرقي والرفعة، من دون التنازل عن الكبرياء الأنثوي.
لم تخل الرواية العربية في أوائل القرن الماضي وحتى منتصفه من روائيّين انتهجوا السبيل نفسه، أشهرهم مصطفى لطفي المنفلوطي، وكان يستعين بأصدقائه، يترجمون له الروايات، فيقوم بإعادة صياغتها بأسلوب عربي أدبي مصقول، قلّ نظيره في روعة بلاغته.
” ما الذي جعل الكاتب يتنكّر للشرف والإخلاص والأمانة والإنسانية؟”
يمثّل المنفلوطي جيلاً، كان متفرّداً فيه، بالدعوة الى التحلّي بالأخلاق الحميدة، ونشدان الحب العذري الخالد، والتضحية والتراحم.
بالمناسبة، من شدّة حرصه على “الفضيلة” وضعه عنواناً إضافياً لرواية “بول وفرجيني” للفرنسي برناردين دي سان بيير. كان ذلك زمن الأدب المحتشم، والكاتب الفاضل.
في القرن الماضي، لاحظ الروائي هنري جيمس أن الحياة باتت تضنّ بأمثال هؤلاء الكتّاب، وهذا ما يعيب الحياة لا الأدب، ما يُخلي الأدباء من المسؤولية، ففي قول الحقيقة كاملة وتصويرها بدقّة ما قد يخالف الحياء والخجل، لكن الشرف الفكري يفرض الحد الأدنى من التظاهر بالتمسك بالحشمة حفاظاً على الحضارة.
تجنّب هنري جيمس الإقرار بمسؤولية الأدباء، عن إهمال دواعي اللياقة واحترام الذات، مع الاعتراف بأن الكاتب لا يستطيع التغلّب على ما تفرضه الحياة، ما أدّى إلى تسلّل مفاهيم باطلة في أدب الواقعية الطبيعية، فجرى التغاضي عن الرذيلة وإهمال الفضيلة، والتسامح مع المشاعر الزائفة، والتهكّم على النوايا البريئة.
ما الذي جعل الكاتب يتنكّر للشرف والإخلاص والأمانة والإنسانية؟
ما اعترف به الكاتب في دخيلته، قدرته على الكتابة عن الفضيلة، بينما هو نفسه ليس فاضلاً، وبوسعه أن يكتب كما يرغب المجتمع، من دون التراخي في مواجهة رذائل عصره. وفي الوقت نفسه، يمارس حياته كما يهوى ويشاء، يدعو من طرف إلى الأخلاق، ولا يتورع عن اقتراف الموبقات، فيكذب ويحتال.
أمّا الاكتشاف الصارخ فهو أن الكتابة لا تتورّع عن تسويغ الفضيلة والرذيلة معاً، وذلك بالتلاعب بالكلمات، بل ويمكنه التباهي برذائله أكثر من فضائله، بدعوى أن الكتابة هي نفسها انغماس في قاع المجتمع. حسناً، ما يُحمد له أنه رغم هذه الازدواجية، استطاع التعبير عن مجتمعه.
ظهر المثقّف على أنه الابن غير الشرعي للكاتب القادر على التضليل بالكلمات، فالانحياز إلى العدالة والإنسانية لا يقبل الازدواجية. فلنتذكّر دائماً أن قوّة دعوة الكاتب تستند إلى شرعية أفعاله.
-
المصدر :
- العربي الجديد