ضرورةُ الفن أو عدمُها لا تُثير التساؤل لدى الكثيرين، بمعنى عدم النظر إليه كحاجة لازمة. هو مجرّد شيء مبهج. وإذا بات لا يُستَغنى عنه، فلاعتباره مسلّياً، وهي نظرة مهيمِنة؛ الفن للترفيه عن النفس، ما ينفي عنه أيَّ وصف آخر، ويكرّسُه مادّةً للاستهلاك في أوقات الفراغ.

وإن كان – لدى بعضهم – ينفع في التباهي الثقافي بذِكر الأفلام المثيرة التي شاهدوها، واللوحات التي أُغرموا بها. أسباب إعجابهم بها على علاقة بـ العنف والعري ومطاردات السيّارات.

يُشكّل الفن لآخرين متعةً أكبر من تلك اللحظية، حتى يُظنَّ أنهم يُضفون عليه ما ليس فيه، وقد نعتقد أنهم يبالغون حينما يقولون بأن العالم بائس من دونه. وإذا كان لهم تصوُّر الجنة التي يرغبون فيها، فهي عبارة عن مكتبة هائلة تحتوي على مليارات الكتب، ومسارح، وقاعات ضخمة للسينما، وعروض متواصلة، وقاعات تحتشد باللوحات التشكيلية، تتصدّرها روائع النحت. يُعتقد خلو الجحيم منها بسبب الحرائق. ذلك هو العذاب.

” يبعث الرغبة في التغيير ويسعى لفتح الأبواب الموصَدة”

حسناً، لماذا الفن؟ ما دام هناك أناس أيضاً لا يفتقدونه في حياتهم ولديهم أسبابهم، لا يتذوّقون الفن التشكيلي، لأنهم بكل بساطة يكتفون بجمال الطبيعة، وهي أصل الفن. أما الأسئلة التي تراودهم حول الكون والوجود، فالتديُّن كفيل بها.

الدين يجيب عن الأسئلة التي يطرحها عليهم الخوف، هو أصل التأمّل. وبالنسبة إلى الحب، لا يحتاج الإحساس به مع الحبيب تحت ضوء القمر، إلى روايات رومانسية، وأشعار غرامية. وهكذا يمكن للنفوس المطمئنة الاستغناء عن الفن.

المؤسف، أنه لا توجَد نفوس مطمئنّة في هذا العصر، وما سبقه من عصور، ربما منذ نشأة الفن، فهو لم يأت من فراغ، بل جاء من قلق الإنسان، كنوع من الدواء المسكّن أكثر منه المعالج، وإذا عالج فمؤقّتاً، ما يُوهِم بتسكين القلق، ويحثُّ على التفكير، ويُحرّض على التساؤل وقد يغامر بالجواب، ويبعث الرغبة في التغيير، ويسعى لفتح الأبواب الموصَدة. أمّا الجدران، فلا يعدم البدائل. وإذا كان ينزع إلى استنهاض المشاعر المؤلمة كالشعور بالذنب، فإنه أيضاً يعمل على إحياء الضمير.

لا يفتقد الفن الحجّة على التأثير في النفوس، ليس بالإحساس بالجمال فقط، بل بخلق فسحة حرّة مضادّة للكآبة، تُشكّل واحة من سكينة النفس، ما يُلبّي التوق الروحي إلى ما نحسّ به ولا نفهمه. ورغم جمالياته ورقّته، يذهب بالبشر إلى إدراك أسباب عذاباتهم، ما يدفعهم إلى مواجهة سلطات جائرة، وأفكار بالية مستقرّة، وقد يكلّفهم حياتَهم.

يهِبُ الفنُّ الحياةَ رؤاها الكبرى، ويكمن في تأثيره ما يجعلنا نحسُّ بروعة وجودنا المأساوي وغموضه المستفحل، واستمراريتهما دونما كلل في الزمن، ولا جواب. سرُّ عظمته أنه جهد بشري، مُعرَّضٌ للخطأ والصواب، ما يضيف نسغاً إلى الحياة من صناعة الإنسان، هو الأشد مقاومة، والأكثر تعبيراً عن تساميه وسقطاته معاً.