يتطيّر الأدب من الدولة، فهو لا يثق بها، ومن فرط مخاوفه على حريته، انسحبت وساوسه منها على أي نظام سواء كان ديمقراطياً أو دكتاتورياً، طالما أنه يمثّل قائمة من الممنوعات قد تعرّضه للمساءلة. الطبيعي والشائع، أن يكون الأدب ضد السلطة، أية سلطة. وإذا كان على وفاق معها، فهو يخون الحقيقة.
الدولة، أو النظام، أو السلطة تتكلم بالمصلحة العامة، بينما الكاتب يُعنَى بالمصلحة الخاصة أيضاً، ولا يُستبعد مغالاته فيها، أو شططه في التشبث بها، لئلا تحد من آفاقه غير المحددة ولا المحدودة، أو تهدد نزواته، وتُعرّض جنونه للخطر. يطلب الكثير ليظفر بالقليل. لذلك لا يستغرب أن يحضّ الأدب جمهوره على التمرّد بالقول: لا تتحالفوا مع أية سلطة، العداوة هي الرابط الوحيد معها.
من حسنات الحياة، والأغلب مساوئها، أن هذه الدعوة لا تجد جمهوراً مجنداً للدفاع عنها إلا بالكلام، وغالباً بالصمت، المهم أنها تحذّرهم من السلطة، وعدم الإغفال عن تجاوزاتها. هذا أقصى ما يستطيع فعله.
” لا تتحالفوا مع أية سلطة، العداوة هي الرابط الوحيد معها”
ليس الأدب بأعمى، وإذا كان قد أجمل الدولة والنظام والسلطة في سلة واحدة، فمن جرّاء تطرّفه. كان للدولة حظوتها من التقدير، طالما هي عامل أمان، لكنه انتقدها بشدة واتهمها باللامبالاة والتسيّب، لتفويض صلاحياتها لأنظمة عبارة عن عهود تتوالى، وكل عهد ماض في التهامها ومعها الوطن والشعب تحت شعار المصلحة العامة، التي لم تعد سوى القمع والحظر وتكميم الأفواه، بعدما أدخل على الشعار إضافات وتحسينات، ترقى إلى استبداله بآخر، يتبدّل حسب الظروف السياسية، لم يزد عن شعارات تقدمية واشتراكية ونضالية ضد الاستعمار والإمبريالية والصهيونية. مؤخراً، داوى هزائمه بشعار كان من أكثرها انهزامية، وأشدها كذباً: المقاومة والممانعة.
من هذا المنظار، يمكن وصف الدولة الزائفة بأنها أم الشرور. احتكرت وسائل القمع والإجبار، وتخلت عنها لما هو عابر، للعسكر يستولون عليها. هذا العابر، أصبح يدعى بالعهد الجديد، بعد قضائه على العهد السابق، الذي أصبح العهد البائد، تحول مع الوقت إلى نظام مستقر، حَوّل الدولة إلى دولة شمولية.
يختلق النظام وجوده من رحم الدولة يستغلها، وينتزع منها مهماتها ووسائلها، فيستخدم السجون لرمي طلاب الحرية، ويقيم المحاكم وينصب المشانق، إنها دعائم الحكم الذي يطمح لتأبيده.
كل دولة لا تدافع عن جوهر وجودها، وتقتلع الشر المنتشر في داخلها، إنما تدعه ليصير نظاماً للفساد، يتشكل من حفنة مستفيدين، وقاعدة هائلة من البؤس. إن هيمنة الفساد تعنى هيمنة نظام ينحو إلى شراء جمهور من المؤيدين والعملاء والموالين.
النظام الملتزم بوظائف الدولة يذهب إلى الديمقراطية، والنظام الفاسد يذهب إلى الدكتاتورية. وإذا كان الأدب مطالَباً بالفصل بين الدولة والنظام، وعدم الخلط بين بقاء الدولة، وتغيير النظام، فلأن من مسؤولياته حماية الدولة، والدفاع عنها كضامنة للحريات. يمثل الأدب دونما مواربة، أحد خطوط الدفاع عن الأمة.
-
المصدر :
- العربي الجديد