يحظى التوريث باستجابة عالمية، تتجلّى بصمتٍ دولي حتى في الأنظمة الديمقراطية، فلا نشهد سخرية ولا انتقاداً، أو اعتراضاً، مع أن التوريث لا يُحيل الجمهورية إلى ملكية، وإنما إلى لا جمهورية، شيءٌ ما من نِظام مختلَق قيل إنه “الجملوكية”، وإذا كانت هناك مَلَكيات في الغرب جرى التمسُّك بها في بعض البلدان، فالسبب أن الملكية كانت جزءاً من عراقتها، ورمزية استمرارها عبر العصور، واعترافاً بما نشرَته من استقرار وازدهار، ولا تعدو فيها سلطة الملوك والملكات سوى سلطات شكلية من منح أوسمة وألقاب، ويُحتَفى بتنصيبهم ومواكبهم وأعراسهم، وتلاحق أخبارهم وفضائحهم وغرامياتهم.
لا بأس، إنها الحياة العلنية غير السرية، الشخصية والحميمة لأصحاب المناصب، لا تخفي زلّاتهم وهفواتهم، بمعنى أنهم بشر مثل غيرهم، وإنما حفاظاً على تقاليد تُمثّل عظمة الأمة.
على الرغم ممّا تتمتّع به الملكيات من حظوظ، كانت “إلهية”، ثم أصبحت مظاهر من الأبّهة الخالصة بحكم الأمر الواقع. وكانت هزائم الامبراطوريات في الحرب الأولى إيذاناً ببدء دولة الشعب التي استطاعت انتزاع صلاحيات الأباطرة والملوك وتجييرها لممثّلي الشعب. فالديمقراطية نخرت عظام الطغاة، وتمكّنت من فرض البرلمانات والانتخابات، ونهاية السلطة المطلقة، سواء كانت متنوّرة أو ظلامية.
” لا تزال المنطقة العربية تشهد استيلاد اللاجمهوريات عن طريق التوريث”
إثر هذه الانهيارات، بدت المَلَكيات في سبيلها الى الاندثار، فلم تتجرّأ حتى الدكتاتوريات الشمولية الشرهة للسلطة على التوريث، رغم عدم وجود أي معارضة، فلا البلشفي ستالين كان راغباً في توريث ابنه، بل تركه للألمان يُعدمونه عندما وقع أسيراً، ولا النازي هتلر الذي كان بوسعه اختلاق ابن آري وتوريثه ألمانيا، ولا الفاشي موسوليني فكّر على هذا النحو، أو ما يشابهه.
بينما المنطقة العربية تشهد استيلاد اللاجمهوريات عن طريق التوريث، باستلهام النشأة الأولى للمَلَكيات الدموية في الصراع على العروش، ولا سلطة سوى سلطة الملك، وتسليط الجلّادين على الشعب، والعقاب لا أقلّ من دحرجة الرؤوس، فلم يتمّ تكريس التوريث في سورية إلّا بعد النجاح في القضاء على المنافسين بالاغتيالات والسجن حتى الموت، ولم ينج حتى الأقرباء من الإقصاء.
يُحيلنا المؤيِّدون للتوريث إلى الامبراطور الياباني والملكة البريطانية، ما يجعل الملكية عصرية، محبّذة ومحبّبة، ويتجاهلون أن اللاجمهورية اكتست خلال تحوُّلاتها السريعة بصيغة قاتلة، تحمل قسطاً من عدوى كورية وإيرانية، إضافة إلى نظام عربي بدأ بالتشكُّل، بعدما انشدّت الأنظار إلى التجربة السورية المظفّرة التي كلّفت حتى الآن مئات الآلاف من الضحايا وملايين النازحين إلى بلدان اللجوء، وخراب شامل، تحت أنظار العالم كلّه. وإذا كانت الجهود تُبذَل لتعميمها في البلاد العربية، بتكريس لاجمهوريات فتية، فرائدُها النظام السوري.
المتوقَّع ظهورُ سلالاتٍ حاكمة، لأجَل غير محدود، بزعم إخضاع شعوبها الإرهابية المتديّنة بدين إرهابي. أمّا العلاج فحاكم علماني مستبدّ وعادل، يصنع تاريخاً علمانياً على مقاسه، يحوز رضا الغرب، ويأخذ بالاعتبار استمرار سلالته على قيد الحكم والنهب.
-
المصدر :
- العربي الجديد