شهد الوطن العربي، في القرن الماضي، سلسلة من الانقلابات، أنتجت أنظمة ترسخت في الحكم، دعم أحدها الآخر، جمعتها مصالح مشتركة، وخاضت معاركها تحت راية الوحدة والحرية والاشتراكية، تحوّلت إلى أيديولوجيات مغلقة، شعارات لا تسعى إليها بقدر ما تنفيها.

كان تحرّك الجيش نحو الإذاعة والأركان يحصل تحت صيغة ثورة لم يشارك فيها الشعب، علم بها من البلاغ رقم واحد؛ كانت انقلاباً عسكرياً. اعتمد الانقلابيون مبدأ تضامن الانقلابات الثورية، بإرسال الدعم العسكري من أسلحة ومتطوعين ومثقفين حزبيين إلى بلدان الجوار، وقد يزجون بالجيش الوطني في مغامرة خارج البلاد، كتعبير عن تحالفها الثوري، وأحياناً الأممي في الانتصار لمبادئ التحرر القومي.

لم تحافظ الانقلابات طويلاً على غطائها الثوري ولا القومي، فرقتها المصالح غير المشتركة، لم تكن سوى الشهوة للسلطة، فتآمر بعضُها على بعضِها، بالاغتيالات والانشقاقات وتدبير الانقلابات المعاكسة. هذه الأنظمة لم تكن الوحيدة في هذا العالم على هذا النمط.

لم يطل هذا الوفاق. بعدما تحالفت وتشاركت في بناء دولها الشمولية، نحت في صراعاتها إلى أن تنجو بنفسها باستجداء تأييد الدول الغربية. ومثلما تسوّلت من قبل الاعتراف بها، لم تتردد عن استئذانهم بما تقدم عليه من خطوات اقتصادية واستثمارات، وكانت تعدهم بشيء ما، ولم يكن قليلاً.

” باتت الأنظمة مكشوفة لا تشكل الأيديولوجيات لها غطاء”

هذا الاتجاه ليس اعتباطياً، فخلال تاريخها، كانت الانقلابات، سواء ادعت أنها ثورية أو غير ثورية، ما أن تحقق الاستقرار حتى تتبنّى سياسات خارجية حذرة، وتتخذ مواقفها حسب مصالحها، وتحرص على سلامتها، وتسعى إلى الاندراج في سلك الدول التي كانت رجعية، أو أمبريالية من خلال تحالفات سرية، تزعم أنها مضادة للإرهاب. ما يفتح آفاق تطوير أجهزتها القمعية، تحسباً من انقلاب أو ثورة. أما شعاراتها العروبية في الوحدة والحرية، فللتلويح بها لزوم الاحتفالات الجماهيرية، فالحكم ليس قصة مبادئ، وإنما البقاء في السلطة.

هذه الأنظمة اليوم بدأت بالتآكل، بالتساقط المتدرّج. محاولات تجديد نفسها ليست ناجحة، إنما هي تكرار لما هي عليه، لاسيما في الرد على “الربيع العربي” الذي أنجب سلسلة من ثورات حلمت بها الشعوب.

مهما قيل عما يحدث في الجزائر والسودان حالياً، فهي ثورات حقيقية، لا يمكن أن نغضّ النظر عن هذه الجموع الهائلة وما تطالب به، لكن ما هو ربما مجهول لشباب هذه الثورات، يبدو أوضح ما يكون في ما أصاب تجربة الثورة السورية التي اجتمعت ضدها المصالح بأنواعها العسكرية والاقتصادية والسياسية، ما أنقذ النظام السوري من ثورة كانت محقة، لم تساعدها العوامل الأخلاقية والإنسانية، ولم يؤخذ بها في العالم الديمقراطي.

للنجاة من الثورة، امتنع النظام السوري عن الوعد بأي إصلاحات، ولم يتورع عن تحويل سورية إلى وليمة مفتوحة للدول الإقليمية والعالمية وللإرهابيين أيضاً، بذريعة القضاء على الإرهاب، كل منهم قاسَ تدخله بما يدره عليه من منافع، فأقبل أو أحجم أو تردد. فغدت سورية ساحات قتال، ومناطق مجزأة ومحتلة… دفع الشعب لقاء حرية لم ينلها ثمناً باهظاً: ملايين الشهداء والنازحين… ودمار شامل.

هذا العالم لم يعد غامضاً، لا تشكل الأيديولوجيات له غطاء، ولا ادعاءات الاستقرار والأمان. باتت الأنظمة مكشوفة، أنظمة تحالف السلطة والنفوذ ورؤوس الأموال ومطامع الدول الإقليمية والدولية، تحميها الأجهزة الأمنية، والجيوش غير الوطنية، وترسانة الدول الكبرى.

فالنداء للثوار الشبان؛ لا تثقوا في الديمقراطيات الغربية، ولا في “المجتمع الدولي”. ثقوا بأن ما تطالبون به، حقوق مشروعة.
زمن الطغاة يجب أن ينتهي.