يمكننا التعرف إلى داماسكيوس، الفيلسوف الدمشقي، من خلال كتابه عن إيزيدور، والذي أراد منه تكريم معلّمه الفيلسوف. غير أن الكتاب شكّل إضافة متميزة، من ناحية التعريف بفلاسفة عصره، فأطلق عليه بعض الباحثين “التاريخ الفلسفي”. وإذا كان لنا أن نطلق عليه عنواناً آخر، فهو “الموسوعة الفلسفية المختصرة لفلاسفة القرن الخامس الميلادي”.

عدّ المؤرخون كتابه المصدر الأهم حول العديد من فلاسفة ذلك العصر؛ مثل مارينو وهيباتيا وبروقليوس وسيريانوس وهيرايسكيوس، وتناول أيضاً سياسيين وخطباء وعلماء وأطباء وشعراء وزاهدين. كتب داماسكيوس (458 – 550) عن حياتهم وتلمذتهم وتحوّلاتهم الفكرية واجتهاداتهم الصوفية… مع تقييم مثير لشخصياتهم. وخصّ معلمه إيزيدور بالكتاب خشية ضياع آثاره، لكنه سيصبح المصدر الوحيد عن فلاسفة عصره، لولاه لضاع ذكرهم. فقد كان القرن الخامس من أكثر القرون اضطراباً في التاريخ القديم؛ إذ كانت المسيحية المنتصرة آخذة بدحر العقائد الوثنية المخالفة، والفلاسفة في المقدمة.

” قدّم موسوعة مختصرة حول فلاسفة القرن الخامس الميلادي”
يصف الكتاب رحلة دامت ثمانية أشهر، بدأت من مدينة الإسكندرية وانتهت في اليونان. كانت مغادرة داماسكيوس وإيزيدور عقب اشتداد حملة اضطهاد الفلاسفة. وإذا كان داماسكيوس ترك الإسكندرية خطيباً مفوهاً، فإنه وصل في ختام رحلته إلى أثينا فيلسوفاً ذائع الصيت.
لكن ما نصيب دمشق في ذلك العصر؟

بالنظر إلى نشأة داماسكيوس، كان لدمشق أبلغ الأثر في مسيرة حياته. في تلك الفترة، كان للثقافة حظوظها الكبرى في المدينة التي انصهرت فيها ثقافة الآراميين والأنباط والهلينستيين، مع ازدهار حضاري شهدته قبل اليونان، حتى إنه كان من الطبيعي، آنذاك، أن ترسل العائلات الثرية والمتوسطة أبناءها إلى الإسكندرية للدراسة في أكاديمية هورابوللو التي اشتهرت بأنها تجمع كبار الأساتذة والخطباء والفلاسفة.

وكان لهذا الدمشقي، فارس الفلسفة الأفلاطونية الجديدة، أن يمثّل المشهد الأخير لذلك العصر الجميل الذي تعايشت فيه ثقافات شعوب اليونان وآسيا الصغرى وسورية ومصر ضمن نسيج واحد، وكان من الأسس الراسخة لنهضة شعوب العالم.

 


هذا شيء مما قدمته سورية للحضارة الإنسانية من خلال شخص واحد هو فيلسوفها الدمشقي. في زمن كانت سورية عقدة الوصل والاتصال بين الشرق والغرب حضارياً وثقافياً وإنسانياً، تشارك في المخاض الفلسفي والديني.

بدأت رحلته الشاقة والطويلة مع معلمه إيزيدور، تحت تأثير مطاردة الفلاسفة في الإسكندرية. وليس من الغريب، مع بدء المحنة، ملاحظة الشك الذي تكوّن داخله في طبيعة النفس البشرية، فمشاهد القتل وقمع الفكر، عاكست قناعته بالمبدأ الأفلاطوني القائل بأن نفس الإنسان ليست شريرة بالضرورة. لكنه عندما سيشاهد مقدار التفاني والتضحية التي أبداها الفلاسفة وتلاميذهم تحت التعذيب في عدم الوشاية برفاقهم، سيترّسخ إيمانه بأن مواجهة الشر تكشف المعدن الخيّر الحقيقي للإنسان.

اليوم بعد أكثر من خمسة عشر قرناً، ترزح سورية تحت سطوة الأوغاد، وثقل أربعة احتلالات، وقد تبدو كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، في مشهدية هائلة الرعب قدّمت خلالها الطغمة الحاكمة النموذج الأسوأ للدولة الشمولية، أذاقت السوريين القهر والعذاب، وبذرت الفتنة والشقاق والكراهية، ونشرت الفساد والأحقاد.

أما عن الإسهام الحضاري لنظام الطغيان، وما قدمه من علم وعلماء، فأطباء في المستشفيات يُجهزون على المرضى المعتقلين… علماء يعملون على تصنيع البراميل المتفجرّة، هذا الابتكار الذي يقتل أكبر عدد من الناس، ويُحدث دماراً كبيراً بمواد رخيصة جداً تكاد لا تكلف شيئاً… عسكريون يقصفون المدن والقرى دونما رحمة أو شفقة، وينهزمون أمام العدو. أجهزة أمنية تتنصّت حتى على الأنفاس، تعذّب حتى الموت، وتقتل لمجرد الشبهة.
سورية في قبضة الشر… سورية قد لا تعود سورية.

اقــرأ أيضاً