يعتقد الكثيرون أنه من العبث التكلُّم عن التفوُّق الأخلاقي في الحروب. الحديث عنه من قبيل الثرثرة المرّة مهما بلغ من التفاؤل، بينما في الواقع لا يزيد عن وهم، وفي أفضل الأحوال، ادّعاءٌ باطل تستحيل معه صدق النوايا، فالحروب طالما أثبتت أنها نقيض الأخلاق، إن لم نقل على عداء معها، ومثلما تحاول الأخلاق منع الحرب، تجهد الحرب في إلغاء الأخلاق، باعتبارها لغواً معوقاً.

تقدّم الحروب المندلعة في بلداننا العربية مثالاً فذّاً على الانحطاط الأخلاقي، واللامبالاة العدمية تجاه البشر، من الأطراف الذين يخوضونها، سواءً الجيوش النظامية أو المليشيات المحلية الداعمة، إضافة إلى المليشيات المذهبية المساندة، ومعها كتائب المرتزقة المستوردة، تلحق بهم الآلة العسكرية الجبّارة للدول الكبرى، طبعا دونما استثناء ذلك الخليط الهائل من المعارضات المتنوّعة من الجيوش المنشقّة والفصائل الإسلامية المسلّحة، ومليشيات تظهر اليوم وتختفي في الغد.

” اختفت الشعوب وتسيدت مصالح الدول في ظل عجز أخلاقي”

كذلك يحتلّ الإرهاب المتأسلم حيزاً كبيراً متقدّماً في هذه الحروب العمياء التي لم يعد يتميّز فيها طرف عن الآخر إلا بوحشية الذبح والتمثيل بالجثث. وإذا كان الروس والأميركان لم يمارسوا القتل بجنودهم المسلّحين بالأسلحة الخفيفة، لكن الثقيلة المتوافرة بسخاء مارست القتل من بعيد وبالجملة، وأدّت تدخّلاتهم إلى خوض حرب عشوائية تجاهلت المدنيّين وإنقاذ الأبرياء، ولم تعن بتجنيبهم القصف، بقدر ما جهدت في إيقاع أكبر الخسائر وإحداث حجم هائل من الدمار تحت شعار وضع حد للحرب، بينما في الواقع، جرى استعمال الكثير من الأسلحة الحديثة، لتجريب فاعليتها على الأرض، بالنظر إلى مدى تأثيرها المميت على البشر، والتأكيد على إسقاطها أكبر عدد من القتلى، أحياناً من دون ترك أثر يدل على وجودهم.

ربما كانت الحرب السورية، إحدى الحروب الشريرة التي لم يتظاهر أغلب أطرافها بحرصه على حماية المدنيين، ولا على خفض أعداد الضحايا. كان العمل جارياً على إيقاع أكبر الخسائر البشرية أثناء تقدُّم الجيوش وإحراز انتصاراتها الدموية، دونما أي حسابات لنعمة الحياة، وكرامة الإنسان، بل بالعكس كان ما لحق البشر يتجاوز الاستهانة بهم إلى احتقارهم. والحجة الدائمة: ليس هناك حرب نظيفة.

لا يُستغرب حجم الخراب الشامل الذي بلغ حد تدمير مدن وبلدات وقرى وتسويتها بالأرض، ونزوح الملايين إلى دول الجوار وبلدان الغرب، وألّا يقل ضحاياها عن مليون شخص، عدا المفقودين والمعوقين. ودخول المنطقة في دوامة الحروب العبثية، من دون أن تجد حلاً جدياً حتى الآن، فالأنظمة التي كانت السبب في هذه الكارثة، تجد الحماية من الدول الإقليمية والكبرى، فلم تضع الحروب أوزارها، بقدر ما أصبحت رهينتها، معلَّقة على حلول تبحث الدول فيها عن مصالحها. أمّا حياة الناس، فالمتوقّع القليل جدّاً لا يأخذهم بالحسبان، وبالنسبة إلى ما خلّفته الحرب وراءها، فالتعقيدات والمآسي، لا تترك إلا نزراً يسيراً من الأمل.

المؤسف، وهو تذييل غير ذي موضوع، اختفاء الشعوب وتسيُّد مصالح الدول؛ بينما الأخلاق عاجزة، خاصة أن ما تطرحه من مقولات مثالية، عن العدالة والظلم والضمير، تبقى من دون فاعلية، (كما هذا المقال)، حتى أنها تُعد من ضمن الخسائر الإنسانية الجانبية، طالما أن الحياة البشرية برمّتها لا تساوي شيئاً في معمعة التدمير الشامل، وما نهب بلدان والتلاعب بالقوانين وسحق الحريات إلّا الحصيلة المتوخّاة منها.