كرّس بعضُ الفنّانين، من مخرجين وممثّلين ومطربين وكُتّاب، شعبيتهم الجماهيرية للترويج لمواقف سياسية كان من نتائجها تحليلهم القتل والتدمير، مع أن أغلبهم لم تكن لديهم اهتمامات سياسية، إلّا كموضوعات درامية، اعتمدت غالباً على النقد الساخر، شمل بعضها المسؤولين، ما عزّز لدى جمهور المتفرّجين صورة للفنان، توحي بالنزاهة والجرأة.

ثم جاءت سنوات الربيع، وحصل الصدام بين السلطة والشعب، انعكس على الفن بشكل دراماتيكي، وأدّى إلى انفصام كامل بين الشخصية على الشاشة والشخصية الواقعية. الخطأ الذي وقع فيه المشاهدون هو الاعتقاد أن الصورة الدرامية للممثّل متطابقة مع صورته الواقعية. بمعنى أن الممثل الذي ينادي على الشاشة بالحرية لا يدعو إلى قمع المظاهرات المطالبة بالحرية، ولا إلى إبادة قرى ثائرة.

اعتبر مثقّفو السلطة أن المشاهدين جمهور من المغفّلين، حسب مقولة “القانون لا يحمي المغفّلين”. هذا هو قانون الدراما والواقع، الذي يفصل بين الفن والحياة. فالعدالة والحرية والثورة يتطلّبها العمل الدرامي، لا الحياة في بلداننا.

” لم يُخف بعض الفنّانين انحيازهم للقاتل بل وشاركوه جرائمه”

هذا الخطأ الفاحش الذي وقع فيه المشاهدون عن حسن نية بات مفهوماً، ما دام أنهم يجهلون قانون الفنون، ما أدّى إلى الخلط بين الممثّل الذي يناطح السلطة، والشخص المنبطح للسلطة، بين الوطني الذي يدافع عن الشعب على الشاشة، والشخص الذي يلهج بوطنية النظام في القتل، هذا ولا يُستبعد أن الفنان نفسه، ربما حمل مسدّساً ولبس المبرقع، وشارك في الحرب على المشاهدين المغفّلين إياهم، الذين كنّوا له الإعجاب، وأبصروا في مواقفه الدرامية قدراً لا بأس به من الكرامة، فإذا به يمرغ كرامتهم في الوحل.

هذه المرحلة طُويت، وانكشف من انكشف… لم تعد هناك خدع يمارسها الفنّانون، ويتبارى مثقّفو الأنظمة لتبريرها، بات هناك انسجام بين الدراما على الشاشة والدراما في الواقع، حسبما رأينا في الدراما الرمضانية، مهما شابها من خدع يصعب تمريرها، فسنوات الربيع كانت وما زالت دراما تغصّ بعذابات يسهل تحويلها إلى مسلسلات لا تنتهي من الصراع مع سلطات جائرة، أو بالعكس تأديب الشعوب لتطاولها على دكتاتورياتها.

ليس بوسعنا لوم الفنّانين، ومطالبتهم بالتقيُّد بأدوارهم الدرامية. الرصاص والقذائف تدحض مثاليات ثبت بطلانها في الربيع، فالممثّل الذي يُنكر تطلّعات شعبه إلى حقوقه المشروعة، ليس بوسعنا مؤاخذته، فهو يقبع في الطرف المعادي. ولا علاقة له بآلام الناس إلّا على أنها مادة للفرجة، مع ما فيه من إجحاف يستثمر الموت والتشرُّد والنزوح.

كما لا يجوز إدانة الفنانين على افتقادهم للضمير، مع أن الفن على علاقة وثيقة بالأخلاق، ففي حياتهم الخاصة والعامة مستقلّون بضمائرهم، وقد تكون لديهم معايير أخلاقية لا تنسجم مع الفن. لذلك يجب النظر إليهم بهذا المنظار، والقبول بواقع أن الفنان في حياته قد يكون حقيراً ولئيماً، بينما في أعماله الفنية يكون رجلاً صادقاً ونزيهاً.

السؤال الذي يطرح نفسه: هل الفن مهنة فقط؟ وهو سؤال لا يُعنى بأداء الممثل وحده، بل بالعملية الفنية بمجملها، الفيلم السينمائي والمسلسل التلفزيوني وغيرهما من الفنون، بما تحمله من نظرة إلى الحياة والحقيقة والبشر والإنسان والعدالة والحرية… ما الموقف منها؟ والجواب يشمل المنتج والمخرج والممثّل وكاتب السيناريو… بعدما أصبح من الوارد للممثّل الانسحاب من تمثيل دور في فيلم، ورفض مخرج حذف مشهد، أو اعتذار كاتب سيناريو عن إدخال تعديلات على عمله… وذلك لتعارضه مع قيمهم.

أمّا عن هذه الحثالة من المسلسلات التلفزيونية مؤخّراً، والتي تبرّر للنظام جرائمه، فلم يُخف العاملون فيها انحيازهم إلى القاتل، والأصح شاركوه جرائمه. ولئلا يُعتقد أن الفن هو الضحية، في الحقيقة هذا ليس فناً، وإنما إعلانات دعائية لتبييض صفحة الطغيان بالتزلُّف إلى القاتل.